في المتاحف.. فاشيّون

رشا الأطرش
الثلاثاء   2022/10/25
بدلاً من التخريب.. رسم بانكسي "أرِني مونيه"
لا بدّ أولاً، قبل أي شيء، من إرساء وتكريس نقطة لغوية في النظام. هؤلاء المعتدون على أعمال ونُصُب فنية تشكل مجتمعةً إرثاً حضارياً وإنسانياً للبشرية جمعاء، هؤلاء ليسوا ناشطين، ولا حتى إيكولوجيين متطرفين. إنهم بكل بساطة إرهابيون. وتسمية الإرهاب هذه ليست مبالغة مُترفة لمَن لم يشهد ويلات إرهابيين من صنف القَتلة والغزاة، بل هي تصنيف تقني وقانوني، أخلاقي وسياسي وحضاري، للتاريخ. مُتابع في بيروت لفيديوهات رمي الطماطم والبطاطا والغِراء، على عيون الفن العالمي العابر للقارات، ورغم كل شيء، لن يشعر باشمئزاز أقل من مُتابع في بريطانيا أو كندا.


أما الخطوة الثانية، فليست أقل من التعامل مع هؤلاء المعتدين، قانونياً وقضائياً ودولياً، وفقاً لتوصيف الإرهاب والترهيب وتلطيخ وجه الإنسانية الجميل. هم ليسوا أقل من "القاعدة" و"كوكلوكس كلان" و"داعش". مقاتلو "الدولة الإسلامية" سفكوا الآثار والفنون، أسوة بالبشر، انتصاراً لربّهم وفهمهم لمشيئته وما يغضبه وما يفرحه. والإيكولوجيون الفاشيون عقيدتهم التطرف في ما يعتبرونه مكافحة الإضرار بالكوكب، ولو جعلوا أهل الكوكب مُتنفَّساً لغضبهم، وجمالياته مطيّة للفت النظر استفزازاً، وبلا جدوى تُذكر. ينفذون اليوم إرهاباً رمزياً في حق الضمير التاريخي وشواهده، وهو الآن جُرميّ فادح، مهما لطّفوه بمقولات من نوع إن فان غوخ كان محباً للطبيعة وفقيراً، وأن مشاريع النفط تلطّخ ما آمن به في حياته.. أو تلك المقولة الخرقاء عن أنه لا مكان لحماية لوحة بملايين الدولارات طالما أننا لا نحمي الإنسانية. وكأن تخريب اللوحة يعود على الإنسانية بأي نفع أو يُكسب "الحركة" مؤيدين إضافيين.

وغداً، ربما يصبح الرمزي عملياً، فيطاول أهدافاً أخطر، لا سيما الأبرياء في الفضاءَين العام والخاص. وهذه ليست سوداوية. في أرشيف تلك المجموعات أمثلة كثيرة، لعل أشهرها الأميركي ثيودور كازينسكي الذي، من ضمن "نشاطات" أخرى، أرسل 16 طرداً متفجّراً إلى جامعات ومقرات مؤسسات، فقتل ثلاثة أشخاص وجرح 23 آخرين على امتداد حملته "التطهيرية" التي استمرت 23 عاماً.

لا يهم مدى نُبل العنوان: نسويّ، ضد مزيد من التنقيب عن النفط، ضد تحليق الطائرات الخاصة، أو ضد حربٍ ما.. إرهابيون وإرهابيات قاموا، بإسم هذه القضية أو تلك، على مرّ عقود، بانتهاك أعمال ليوناردو دافنشي، رودان، مايكل أنجلو، فان غوخ، بيكاسو، مونيه، وسواهم... دون مقرات رسمية واستابلشمنت ومصانع ومطارات هي المفترض أنها معنية مباشرة بما يسمّى فاعلية من أجل قضية.

لا تهمّ أيضاً المركزية الغربية لتلك اللوحات والمنحوتات. فلا غرب ولا شرق، لا شمال ولا جنوب، حينما نتحدث عن الإبداع والاحتكاك بالجوهر الإنساني. ويكفي إن الفنون في المشرق تتكفل بتخريبها الحروب وعصابات اللصوصية والتهريب والعوامل الطبيعية التي لا رادّ دولتياً لها. كنوز ثقافية وتاريخية لا تنتظر "مناضلين" لا طاقة لهم، بعد مطلب الخبز والتعليم والدواء ومياه الشفة وحرية الرأي والجسد، بالمعنى الأوّليّ للكلام، للمطالبة بدرء الانتهاكات البيئية أو سواها. دول الشرق بالكاد تحمي أفرادها، إن حمَتهم، فكم بالحريّ فنونها وآثارها؟ المحميّ في المتاحف الوطنية وبعض المواقع الأثرية، جزءٌ مَحظيّ من كُلٍّ سائب، مدرار مداخيل سياحية في أحسن الأحوال، اللهم إلا ما رحم ربّي فأوَصَله إلى متاحف عالمية أو ما تنجح منظمات مثل اليونيسكو في حمايته ولو بشكل محدود. حماية الإرث البشري في تلك المتاحف الغربية الكبرى، حيث دول ترعى ودافع ضرائب يهتم، قضية للعالم بأسره، وليست على عاتق العالم الأول وحده.

قيل عن هؤلاء "الإيكوفاشيين" إنهم يسار غربي متطرف. في بريطانيا وألمانيا وهولندا والولايات المتحدة، وحيثما تم الاعتداء على قطع فنية لا تقدّر بثمن. واليمينيون صنّفوهم في خانة "الشيوعية الخضراء". لكن الحقيقة أنهم ليسوا يساراً ولا يميناً، وهُم، في الوقت نفسه، غلاة اليسار واليمين معاً... وثمة تقارير صحافية ما زالت تحاول نبش خلفياتهم ومموليهم، ولربما تُظهرهم حقائق ستُكتشف قريباً كأصحاب أجندة ثالثة.

في الوقت الراهن، هم إما ينطلقون من إيديولوجيا تنسف مركزية الإنسان في الكون وتضعه مساوياً، في الحق بالوجود، مع سائر الكائنات الحية، وبالتالي يؤمنون بأن حرية البشر انفلتت من عقالها بأثر من الحضارة الصناعية. وإما أنهم أقرب إلى الأناركية البدائية، المعادية للتكنولوجيا ونتاجات الإنسان خارج حياته "الطبيعية"، وبالتالي يرون أن حرية البشر مقيّدة بالحضارة الصناعية التي يجب نسفها لتتحقق المساواة الأسمى ويُقضى على العنف.

الفئة الأولى تعتبر أن حقوق الإنسان ليست أساس الحضارة، بل حُكم إعدام على الخليقة، وهم بذلك يتناغمون مع أحد وجوه النازية في حمايتها للحيوانات. والآخرون لهم مفهومهم الخاص لحقوق الإنسان، كإنسان محض، مجرّداً من "ترف" التقدم والإبداع والسياسة، وبذلك يتساوقون، من حيث لا يدرون أو يرفضون الاعتراف، مع النصوص المقدّسة وحكاية "آدم" في جنّته المفقودة، أو ربما "نوح" الذي لا يستأنف الحياة إلا من صِفرها. والفئتان العريضتان اللتان تنضوي تحتهما مجموعات "الإيكوفاشية" الجديدة إلى هذا الحد أو ذاك، كافرتان تماماً بأطر الديموقراطية كأسلوب نضال.

يبقى أن هناك مثلاً بانكسي، الذي خاض المعركة نفسها، بطريقته، حينما أعاد رسم لوحة لمونيه، بمنظرها الطبيعي الزاهي ملوَّثاً بمخلّفات استهلاكية وصناعية، إضافة إلى استعادة لوحات كبار الفنانين العالميين ضمن التيمة نفسها. الرسم البديل، الاستكمالي، التحشيد والتعبير بالفن، أو حتى الفن للفن. هذا كلام، نُطْق، خطاب، فِعل. فيما تخريب الفن، ضجيج وحرب إلغاء وإفناء، بلا أي غنيمة تُذكَر إلا مُشاهدات الفيديوهات.  

وفي زوايا الكوكب، أفراد فاحشو الثراء، ومجموعات أعمال أقرب في نفوذها ومعاركها إلى الآلهة الإغريقية ومَلاحمها. بين هؤلاء، بلا شك، مَن شاهد فيديوهات الاعتداءات في المتاحف، وضحك أو تثاءب أو حتى حزن. ثم أطفأ الشاشة وانصرف إلى مشروع ملياريّ نظيف من بُقع الطماطم.