الصورة الشعريّة في شعر الأخوين رحبانيّ العامّيّ

أسعد قطّان
الأحد   2021/06/20
عاصي ومنصور

 

في الذكرى الخامسة والثلاثين لرحيل عاصي الذي ما زال يقارع الموت بالجمال حتّى بعد موته...

 

 

هل نستطيع تحديد بعض مكامن الإبداع في الصورة الشعريّة لدى الأخوين رحبانيّ انطلاقاً من نموذج الشعر العامّيّ؟ كنت قد أشرت في دراسة سابقة إلى أنّ الشعر العامّيّ الرحبانيّ لا يشذّ عمّا نجده لدى معظم الشعراء الذين كتبوا ويكتبون بالمحكيّة اللبنانيّة من حيث تركيزه على الاستعارة بوصفها قوام التفلّت الإبداعيّ، وتطرّقتُ إلى بعض الأمثلة المعبِّرة (راجع «المدن»، 6/12/2020). ولكن اللافت، أيضاً، أنّ شعر الأخوين ينطوي على عدد من «اللقطات» الشعريّة المذهلة في إيحائيّتها والتي لا تقوم على الاستعارة، بل على خصائص أخرى لا بدّ من تفكير معمّق في طبيعتها بغية توصيفها وتأطيرها. والحقّ أنّ وجود مثل هذه اللمحات الشعريّة «غير الاستعاريّة»، إذا جاز التعبير، إنّما يفصح أوّلاً عن مقدار التنوّع في الصورة الشعريّة الرحبانيّة، ويدلّ ثانياً على أنّ النظريّة الأدبيّة، على أهمّيّتها وضرورتها، تبقى دائماً على شيء من القصور، وذلك فيما هي تحاول اللحاق باللحظات الإبداعيّة لدى الشاعر طمعاً في تبويبها وتحليلها. سأستعين، في ما يأتي، بعدد من الأمثلة محاولاً إلقاء الضوء على بعض خصائصها الإبداعيّة، وذلك بالاستناد إلى مقاربة تاريخيّة، بمعنى الذهاب من الأقدم إلى الأحدث.


«غيبي ولا تغيبي/ولا تقولي وين/مراية حبيبي/لون العينين/ولمّن قلّا يا زغيرة/تحلّيتي وصرتي كبيرة/صارت تبكي الحلواية/وتضحك تضحك المراية» (هالة والملك، 1967). يشتمل هذا المقطع الشعريّ الجميل من أغنية «قالتلي المراية» الفيروزيّة على معالم مألوفة في الشعر الرحبانيّ، ولا سيّما ظاهرة إقرار الشيء ثمّ نفيه (غيبي ولا تغيبي)، التي تطالعنا غير مرّة في تراث الاخوين (مثلاً: تعا ولا تجي)، والتكرار (تضحك تضحك)، والاستعارة (مراية حبيبي لون العينين)، وقد توقّفتُ عندها مطوّلاً في الدراسة المشار إليها أعلاه. ولكنّ ذروة الإبداع الشعريّ هنا تبقى «قفلة» المقطوعة (وصارت تبكي الحلواية/وتضحك تضحك المراية). الملاحظ أنّ هذه القفلة لا تستند إلى الاستعارة، بل إلى مجرّد تناقض مع الخبرة المألوفة. فالطبيعيّ هو أن تعكس صورة الإنسان في المرآة ما يقوم به في الواقع. ولكنّ الخيال الشعريّ يذهب هنا في الاتّجاه المعاكس، في اتّجاه التضادّ بين ما تقوم به الحلواية في الواقع، أي فعل البكاء، وما تقوم به صورتها في المرآة، أي فعل الضحك. الصبيّة التي تفتّح الجمال في جسدها بعدما دخلت سنّ البلوغ قلقة من هذه الحقبة الجديدة في عمرها، المسكونة بالطلاسم والمفاجآت. ولكنّ صورتها في المرآة تضحك بهدف التعبير عمّا تختزنه هذه الحقبة العمريّة الجديدة أيضاً من جمالات وفرح، ما يجعل الصورة الشعريّة هنا تتّسم بالجدّة عبر مخالفتها الجذريّة لتوقّعات السامع أو القارئ لا من حيث الشكل، بل من حيث المضمون، وكسرها للمألوف الحياتيّ الذي يقوم على التوازي بين حركات الإنسان وصورته في المرآة.


محطّتنا الثانية هي أغنية فيروزيّة «طارت بها الكتب»، وصارت عنواناً للعبقريّة الرحبانيّة في الموسيقى: «شادي» من رائعة الأخوين المسرحيّة «يعيش يعيش» (1970). لا أحسب أنّ كثراً توقّفوا عند النصّ الشعريّ. أذكر أنّي عندما ترجمته إلى اليونانيّة في إطار دروس اللغة التي تلقّيتها في مدينة سالونيك العام 1991، توقّفت عنده معلّمة اللغة بضع ثوان، ثمّ تفوّهت بكلمة واحدة: «مذهل». يهمّنا من قصيدة «شادي» ذروتها: «وأنا صرت إكبر/وشادي بعدو زغيّر/عم يلعب عالتلج». هنا، مرّةً أخرى يقرّر الأخوان الاستغناء عن الاستعارة والاكتفاء بكلمات بسيطة تكمن عبقريّتها في خيال شعريّ يكسر الواقع المألوف. من غير المعقول أن يبقى شادي صغيراً. هذا يؤكّده حوار هيفا، الذي يلي الأغنية، مع الإمبراطور المتخفّي في دكّانها: «قولك كبر؟، أكيد كبر». ولكنّ شادي لا يكبر في الأغنية لكونه يتماهى تماماً مع صورته في ذاكرة هيفا ومخيّلتها. وهذه الذاكرة مكسورة، لأنّ حكاية شادي انكسرت يوم قرّر الرحيل كي يتفرّج على الحرب. هذه الأبيات في مقدورها أن تكون أيضاً ضرباً من تورية تشير إلى موت شادي. طبعاً هذه الفرضيّة لا تتلاءم مع حوار هيفا والإمبراطور الذي أتينا على ذكره، والذي يوحي بأنّ شادي ما زال على قيد الحياة. ولكن مَن قال إنّ سياق المسرحيّة يجب أن تكون له الكلمة الأخيرة في تأويل نصٍّ من هذا النوع مفعم بالإيحاءات الشعريّة؟


ومن «يعيش يعيش» إلى «يعيش يعيش» في صورة أخّاذة أخرى تختصّ هذه المرّة بالفتاة التي تحرس دكّان المغازل في كفرحالا، وتحرس سوق العنّاب: «عشمالك في دكّانة/بتبيع مغازل صوف/وبنت بتقعد سهيانة/بتنطر تيجيها ضيوف/حلوة والخصر بيلوي/وما بتعرف إنّا حلوة/لا تفوّقها على حالا/بلكي شغلتلاّ بالا». هو المقطع الأوّل من الأغنية الجميلة الثلاثيّة المقاطع. يكاد يكون مجرّد سرد عاديٍّ يستعين بالوزن والقافية. ولكنّ الخاتمة تجعله يسمو ويرتفع ويتجلّى ويبلغ مصافّ الصور الشعريّة النادرة في الشعر العاميّ التي لا تحتاج إلى الاستعارة كي تلمع وتضيء. بنت كفرحالا لا تعرف أنّها جميلة. فإذا مرّ عابر سبيل وأخبرها بذلك وعبّر لها عن إعجابه بجمالها، سينشغل بالها وتنقلب حياتها وتدخل دنيا القلق الذي ما بعده قلق. كما في حلواية «هالة والملك»، الجمال هنا محكوم عليه ألاّ يكون مصدراً للسعادة أو للزهو بالنسبة إلى صاحبته، بل هو منطلق للاضطراب الداخليّ. والأَولى بعابر السبيل ألاّ يسوق صاحبة الجمال بكلمات غبيّة، حتّى ولو كانت غزلاً، إلى متاهة من هذا النوع. بخلاف الصور الشعريّة التي توقّفنا عندها حتّى الآن، بيت القصيد هنا لا يكمن في أنّ المعنى الشعريّ يذهب في اتّجاهات تخالف الواقع، بل في كون الشاعرين يكشفان لنا بكلمات سرديّة بسيطة بعداً سيكولوجيّاً عميقاً من أبعاد الذات الإنسانيّة، وذلك حين يكون الجمال، وما يرتبط به من قلق، صاحب الكلمة الفصل في الحضور الأنثويّ.



تقودنا المحطّة الأخيرة في هذه الجولة السريعة إلى أغنية «الله معك يا هوانا» الفيروزيّة من مسرحيّة «لولو» (1974): «نبقى سوا وصوتك بالليل/يقلّي وأنا عم إسمع/بحبّك حتّى نجوم الليل/نجمة ونجمة توقع/وخلص الحبّ/وسكتت الكلمة/وتسكّر القلب/وما وقع ولا نجمة». لعلّنا، في هذا المقطع الشعريّ، أمام متخيَّل يشبه، إلى حدٍّ ما، ذاك الذي أنتج شادي الذي لا يكبر. هناك، منطق الذكرى الذي يبلغ حدّ انقطاعه المطلق عن الواقع. وهنا، منطق الحبّ الذي يصل إلى ذروته في استعارة النجوم التي تتساقط. وتساقط النجوم هو، في الكتب المقدّسة، من علامات نهايات الأزمنة. ولكنّ ذروة الإيحاء الشعريّ في هذا المقطع لا تتأتّى من استعارة النجوم المتساقطة، بل من عدم سقوطها، أي من تهافت الاستعارة وانكسارها على أبواب الواقع: «وتسكّر القلب/وما وقع ولا نجمة». إنّ الدهشة التي تتولّد من أبيات هذا المقطع تحيلنا إلى انكسار الحبّ وانكسار الشعر وانكسار الاستعارة أمام رتابة الواقع. نحن، إذاً، أمام لحظة شعريّة غرائبيّة من حيث إنّها تساءل المشروع الشعريّ برمّته، القائم خصوصاً على جماليّات الاستعارة، وتأخذنا إلى مكان تتولّد فيه لحظة الإبداع الشعريّ لا من كسر الواقع كما في «قالتلي المراية» و«شادي»، بل من العودة إليه بوصفه العامل الذي يفرّغ الاستعارة من كثافتها: «ما تاري الكلام/بيضلّو كلام».

هل من خلاصة يمكن الخروج بها؟ من النافل القول إنّ هذه الأمثلة الأربعة، على ما تختزنه من تكثيف إبداعيّ، غير كافية للطلوع بنظريّة شاملة يمكن الاستعانة بها لتقصّي جماليّات النصّ الشعريّ العامّيّ لدى الأخوين رحبانيّ من خارج الاستعارة. ولكنّها، ولا شكّ، تدلّنا على بعض مندرجات العمليّة الإبداعيّة. فهذه تستند تارةً إلى كسر المألوف في الخبرة الواقعيّة عبر تغليب منطق الحلم أو الذاكرة، وترتكز طوراً على نفوذ إلى عمق السيكولوجيا الإنسانيّة وإظهار أبعاد لها كامنة لا تستعلن لنا مباشرةً في الخبرة اليوميّة، أو على مساءلة التماعات الاستعارة باسم تفاهة الواقع، ما يأخذنا إلى لحظة شعريّة تتوهّج على قدر ما تنكر ذاتها، إذا جاز القول. في كلّ هذا، يفتح لنا الأخوان رحبانيّ أبعاداً جديدةً في خبرتنا الإنسانية غالباً ما يتحوّل معها الشعر من لحظة نشوة عابرة إلى مشروع جماليّ يتلقّف العالم كي يعيد صوغه من جديد.