الأحد 2020/12/06

آخر تحديث: 08:55 (بيروت)

الاستعارة في شعر الأخوين رحبانيّ العامّيّ

الأحد 2020/12/06
الاستعارة في شعر الأخوين رحبانيّ العامّيّ
فيروز وعاصي ومنصور
increase حجم الخط decrease
حدّد كثر من علماء البلاغة العرب الاستعارة على أنّها ضرب من ضروب التشبيه «حُذف أحد طرفيه». وقد اعتبر الجرجانيّ أنّها استعمال للمعنى «في غير أصله»، بحيث تتمّ عمليّة «نقل» للمعنى غير لازمة من مستوىً إلى مستوىً آخر، ما يبرّر استخدام لفظ «استعارة» لتوصيف مثل هذا النقل. فالأديب «يستعير» بعداً معنويّاً عبر اقتداده من حيّز ما ولصقه بحيّز آخر. ولقد تنبّه البيانيّون العرب إلى أنّ الاستعارة أقوى من التشبيه وأمضى وأعمق أثراً، واعتبرها النقّاد الغربيّون عماد اللغة الشعريّة. أمّا الفيلسوف الفرنسيّ بول ريكور في كتابه المرجعيّ «الاستعارة الحيّة» (La métaphore vive)، فقد فكّك النظريّة التقليديّة القائلة بأنّ الاستعارة تستند إلى ترابط قائم أصلاً في طبيعة الأشياء (وجه الشبه)، مبيّناً كيف أنّ الأديب كثيراً ما يخلق، بلجوئه إلى الاستعارة، أبعاداً جديدةً وعوالم جديدةً لا تستند إلى أيّ تقارب موضوعيّ قائم مسبقاً في طبيعة الأشياء.

لا ترتكز كلّ محاولة شعريّة على الاستعارة. فثمّة شعراء محدثون يعزفون عمداً عن الاستعارات محاولين التعويض عن هذا العزوف بتكثيف للمعاني يستنجد بلغة مجرّدة وغير تصويريّة. ولكنّ الاستعارة تبقى حتّى يومنا هذا قوام الشعر العامّيّ في بلاد الشام عموماً، وفي لبنان خصوصاً، والذي يُعرف بالزجل. على وجه العموم، لا يشذّ شعر الأخوين رحبانيّ الموضوع باللهجة المحكيّة عن هذه القاعدة، فهو يحفل بالاستعارات المألوفة والمبتكرة. غنيّ عن القول أنّ بعض هذه الأخيرة هو ما يهمّنا هنا لكونها تبيّن، في رأينا، ما ذهب إليه بول ريكور من أنّ الاستعارة لا تستند إلى علاقات قائمة مسبقاً بين المعاني، بل تقوم بخلق هذه العلاقات فاتحةً في جسم اللغة آفاقاً معنويّةً جديدة.


لقد قيل كلام كثير عن «بكره إنت وجايي رح زيّن الريح». ربّما تكون هذه الصورة الشعريّة التي تستعير التزيين لعنصر طبيعيّ غير مادّيّ هو الريح، والذي لا يمكن أن يقع عليه تالياً فعل التزيين الوضعيّ، من أكثر الاستعارات الرحبانيّة إثارةً لاهتمام النقّاد الأدبيّين في العقود الأخيرة. ولكنّها ليست الوحيدة طبعاً في الأغنية ذاتها. فهذه الأغنيّة الفيروزيّة الفريدة تكتظّ بالاستعارات من البيارق «المرسومة» على رؤوس الأدراج إلى الشجر الذي «يبكي» على المفارق. ولكن يبدو أنّ قلّةً من النقّاد رصدت صورةً شعريّةً هي، بلا شكّ، على القدر ذاته من الإيحائيّة، إذا ما قورنت بتزيين الريح، حتّى إنّها ربّما تفوقها قدرةً على الإيحاء: «بكره إنت طالل/بركض بلاقيك/وسطوح المنازل/كلاّ شبابيك». ربّما يختلف البيانيّون في ما إذا كنّا هنا أمام استعارة «مكتملة» الشروط أو أمام تشبيه سقطت أداته. بصرف النظر عن الجواب، الأكيد أنّ المعنى ينطوي على استعارة حقيقيّة لكون الشبابيك ليست من طبيعة السطوح. وهنا بالذات يكمن البعد الجديد الذي تجترحه هذه «الاستعارة» العبقريّة. يطلّ الحبيب، فإذا بأسطح المنازل تخون طبيعتها، القائمة في الحجب والستر وحماية البشر من عناصر الطبيعة، وتتحوّل إلى مساحة تغصّ بالشبابيك، أي مساحة تتيح للشمس الدخول إلى البيوت بلا استئذان. هكذا تغمر النورانيّة الأشياء، وتتضاءل المسافة بين الأرض والسماء، ويصبح الحبّ الذي تعبّر عنه الأنا الشعريّة، التي يتلبّسها صوت فيروز ويضيف عليها نوراً على نور، عنواناً لنسق مختلف من العلاقات في الطبيعة وفي الكون. 


النمط الشعريّ القائم على إعادة رسم خطوط العلاقة بين الأشياء يستعين به الرحبانيّان في بعض قصائدهما الحاضرة تارةً والمنسيّة طوراً: «شالك ذكّرنا بقطف/الورد من سياج/زهوراتو راحوا خطف/انزرعو بدراج/بحياتك نتفة عطف/من الشال وحاج/قراب من كروم اللطف/وما فينا نطال». قبل الأخوين رحبانيّ، ليس ثمّة أيّ نوع من الارتباط بين الكرم واللطف. فمن حيث الحقل الدلاليّ هما ينتميان إلى نطاقين غاية في الاختلاف، الأوّل مادّيّ حسّيّ (الكرم) والثاني أخلاقيّ (اللطف). ولكنّ هذه الاستعارة اللافتة، التي تكاد تتحدّى منطق البيانيّين العرب عن المألوف وغير المألوف في تركيب المعنى، تتيح للأخوين رحبانيّ تأسيس علاقة جديدة كلّيّاً وغير متوقّعة بين العنصرين، أي الكرم واللطف. ربّما يقول قائل إنّ الكروم تصبح هنا عنواناً لفيضان اللطف كما تفيض الثمار من الكرم السخيّ. ولكنّ الأكيد أنّ هذا التفسير لا يستنفد العلاقة الجديدة التي تبقى مغلّفةً بالأسرار في بعض وجوهها. فلماذا يكون «وجه الشبه» هو مجرّد السخاء، ولا يكون امتداد الكروم أو قدرتها على تلقّف التماعات الشمس أو كونها عصيّةً (إذا كانت مسيّجة) على من يحاول الدخول إليها والعبث بها؟


إذا كانت أغنية «شالك رفرف»، التي أنشدها وديع الصافي أوّلاً، حاضرةً في الوجدان الجمعيّ لمحبّي الأخوين رحبانيّ، ولا سيّما بفضل استعادتها بصوت فيروز في شريط «إلى عاصي»، فإنّ أغنية «يا دارة العلالي» الفيروزيّة من مسرحيّة «جبال الصوّان» نكاد لا نسمعها إلاّ في إطار بثّ المسرحيّة ككلّ، الذي كان رائجاً طوال الحرب الأهليّة اللبنانيّة ولكنّه أضحى اليوم عملةً نادرة. نحن هنا أمام نصّ شعريّ يعبق بالغنائيّة وغنى الصور وكثافة الاستعارات يخترقه إيقاع لافت ويغلّفه إداء فيروزيّ مذهل في حسّه. نقتطف من هذه الاستعارات هذا المقطع الجميل: «يا مزنّرة بالخطر/صوب السما تلفّتي/عبيادرك والشجر/يربا هدير الشتي». مرّة أخرى، لا شيء في عرف العلاقات الموضوعيّة يربط بين هدير الشتي وفعل «ربا/ربّى». ولكنّ اللغة الشعريّة، والاستعارة تحديداً، هي التي تضع مداميك هذه العلاقة الجديدة، علماً بأنّ بعض أبعادها يبقى عصيّاً على التأويل. فالفعل المستخدم يحيل إلى النموّ والزيادة في الزمن، أي إلى عمليّة تصاعديّة تراكميّة. كيف يربو هدير المطر؟ هل ينقدح ثمّ يتكثّف متصاعداً فينتقل من حال الطفولة والفتوّة إلى حال البلوغ؟ لئن كانت وظيفة النقد أن يطرح مثل هذه الأسئلة، إلاّ أنّها ليست وظيفة الشعر والشعراء أن يزوّدونا بالأجوبة. فالاستعارة تحفظ أسرار المعنى وتدعونا إلى تذوّقه من دون فضّ بكارته وهتك حجبه.

محطّة أخرى مع نصّ شعريّ أخّاذ وضع كلماته ولحّنه عاصي الرحبانيّ، وذلك بشهادة مؤدّيه صاحب الصوت المغناج إيلي شويري، أعني به أغنية «وصلو الحلوين»: «بعدا ضحكتها ملهيّة/بتوزّع همّ وفرقة/وبعدن عينيها صيفيّة/وميّ وجداول زرقا/يا زهرة اللي وراقك غمر/وتتنزّه عحفاف العمر/كيف نحنا كبرنا وضلّيتي/صبيّة حلوة». يدور موضوع الأغنية حول فكرة واحدة: فتاة غاية في الجمال يشيخ كلّ عاشقيها وهي تبقى صبيّةً جميلةً لا تتأثّر بمرور الزمن. من لم يتمعّن بعد في هذه الأغنية، في شعرها المتّكئ على البيان ولحنها السندسيّ الرقراق، حريّ به أن يقوم بذلك قبل انقضاء عمره لئلاّ يخسر لذّةً شعريّةً وموسيقيّةً لا تعوَّض. بعض من هذه اللذّة نغرفه من هذه الاستعارة المذهلة التي لا أعرف لها مثيلاً في لغة العرب: «تتنزّه عحفاف العمر». يستعير عاصي الحفافي للزمن، ثمّ يوغل في المجاز. فالمعشوقة تتنزّه على هذه الحفافي التي تسوّر العمر. ولكنّها لا تبارح السور، أي إنّها لا تسقط في جريان الزمن، وهكذا تبقى في جمالها الأبديّ عصيّةً على الشيخوخة. والغرائبيّ أنّها لا تقف على حفافي العمر مصابةً بالقلق أو بالخوف من الانزلاق، بل تتنزّه هناك، شأنها شأن الصبية المهرة الذين تمرّسوا على المشي على الحفافي بكلّ ثقة ودرّبوا أقدامهم على ألاّ تزلّ. هي، إذاً، تلاعب الزمن من دون أن تصبح جزءاً من لعبة جريانه.

 
هذا الذي تطرّقنا إليه إنّ هو إلاّ غيض من فيض، إذ لا بدّ من عمليّة بحثيّة موسّعة تغوص على إرث الأخوين رحبانيّ الشعريّ بهدف تفحّص ما يختزنه هذا الإرث من أمداء جديدة صنعتها الاستعارة. ولكن يحلو لنا أن نختتم هذه السطور بمثل أخير مأخوذ من أغنية شبه منسيّة في الريبرتوار الفيزوزيّ هي «قالتلي المراية» من مسرحيّة «هالة والملك»: «غيبي ولا تغيبي/ولا تقولي وين/مراية حبيبي/لون العينين». تقوم هذه الصورة الشعريّة، إذا جاز التعبير، على «تشبيه» مزدوج: استعارة المرآة للحبيب، ومن ثمّ ربط هذه الاستعارة بلون عينيه. هكذا تصبح عينا المعشوق حيّزاً يكشف كالمرآة ما يعتمل في دواخله من أحاسيس. لقد أكثر الشعراء العرب الكلاسيكيّون من «التقسيم» على العلاقة بين العينين والعواطف الإنسانيّة، بين ما يظهر في الحدقتين وما يصطخب في القلب: «أفسدت بيننا الأمانات عيناها/وخانت قلوبهنّ العقولُ/وإذا خامر الهوى قلب صبٍّ/فعليه لكلّ عين دليلُ»، يقول شاعر العرب الأكبر في لاميّته الشهيرة التي «يتنزّه» فيها بحذاقة بين حلب المدينة وحلب المرأة، علماً بأنّ العين هنا هي أيضاً عين المتلقّي الذي يرصد عبر المظهر الخارجيّ ما يجيش في قلب العاشق. وكثيراً ما تندّرت العرب ببيت لعمر بن أبي ربيعة يؤكّد العلاقة الوثيقة بين ميل العين وميل القلب، حتّى إنّ المعشوقة نُعُم تطلب من الشاعر أن يزيّف هذه العلاقة لئلاّ يفتضح أمر الحبّ: «إذا جئت فامنح طرف عينيك غيرنا/لكي يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر». ويبدو أنّ المتنبّي يدخل نوعاً من التناصّ مع بيت الشاعر الأمويّ، وكأنّي به يردّ بلسان بن أبي ربيعة المتيّم بالحبّ على طلب معشوقته نُعُم، حين يقول: «وإطراق طرف العين ليس بنافع/إذا كان طرف القلب ليس بمطرق». يتّضح من هذا كلّه أنّ الاستعارة الرحبانيّة تبني على تراث مديد من تفحّص احتمالات العلاقة بين العين والقلب في الشعر العربيّ. ولكنّ الجديد فيها ليس استعارة المرآة فحسب، والتي من طبيعتها أن تعكس الأشياء، بل كون مرآة الأحاسيس ليست العين في ذاتها، بل لونها تحديداً. هكذا يصبح لون العيون لا مكاناً للتشبيب والتعبير عن الافتتان فحسب، بل أيضاً مكاناً لفضح أسرار النفس، وذلك حين يشفّ ويتحوّل إلى مرآة للقلب حين يتيّمه الحبّ.
 
 
 
...
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها