ثقافة اللجان الإلكترونية.. "الرأي العام" كلعبة سلطة ومصالح

شريف الشافعي
السبت   2021/05/22
نجاح حفلة نقل المومياوات استغلتها السلطة لترويج "رأي عام" ملتف حول عموم سياساتها (غيتي)
هل تكتفي المنابر والمنصّات الإلكترونية، خصوصًا صفحات السوشال ميديا، بنقل الرأي العام العفوي تجاه القضايا والأحداث والمواقف المختلفة، لتعكسه كما هو من دون أن تؤثر فيه؟ أم أنها؛ شأنها شأن وسائل الإعلام العصرية المتطورة، منخرطة إلى أبعد الحدود في صناعة هذا الرأي العام، وتشكيله، وإدارته، وتوجيهه، وأدلجته، وتسييسه، وتديينه، واستعماله كسلاح تقني متفوق في حروب الإنترنت، التي هي وجه من وجوه معارك الواقع المشتعلة على الأرض؟

الإجابة، التي لا تكاد تخفى شواهدها وتمثلاتها اليومية على أحد، أن حصاد ما تبثه هذه المواقع والصفحات الرقمية صار يمثّل قوة كبرى شرسة، قادرة على الضغط وفرض النفوذ والفعل والتأثير والتغيير وخلق الاتجاه والرأي. ويمكن تسمية هذه القوة الناعمة الناشئة مجازًا: "ثقافة اللجان الإلكترونية"، على اعتبار أن العمل النظامي هو الذي يحكم غالبية هذه الدوائر الافتراضية، وعلى رأسها مجتمع السوشال ميديا، الذي يهيمن عليه الذباب الإلكتروني وكتائب المنظّمات والجماعات و"الشلل" وأصحاب المصالح، بصورة تفوق الصفحات الفردية المسالمة والحيادية بمراحل.

بعد أكثر من عشرة أعوام على اندلاع الثورات العربية، التي كان للسوشال ميديا دور كبير في رعايتها وتأجيجها، لم تبق حكومة أو حزب مؤيّد أو مُعارض أو هيئة أو جهة أو سلطة سياسية أو دينية أو ثقافية أو اقتصادية أو حتى فئة نوعية صغيرة في أي ميدان من الميادين، بلا أذرع إلكترونية وشركات احترافية مأجورة، تروّج لأفكارها وسياساتها ومصالحها، وتبالغ في إنجازاتها. وفي المقابل، تشوّه أعداءها والمتنافسين معها، وتسعى إلى خفض شعبيتهم وإلحاق الأذى بهم، وربما وتدميرهم ماديًّا ونفسيًّا ومحو وجودهم الافتراضي والفعلي.

ويبقى دائمًا نجاح أي لجنة إلكترونية أو جماعة ضغط، في إنجاز أهدافها، مرهونًا بغطاء سحري يتم من خلاله فرض النفوذ وتحقيق التأثير، هو غطاء الرأي العام، أو حجم التريند أو الهاشتاغ الذي يجري اختلاقه وترويجه وتعميمه تعسفيًّا ليلقى لاحقًا قبولًا واقتناعًا وذيوعًا نسبيًّا بين المتابعين العاديين والطبيعيين المنقادين إلى معمعة الطوفان، ليبدو في المحصلة كأنه موقف جماعي موحّد أو مطلب جماهيري عام، وبالتالي فقد يتحرك أصحاب القرار لصالح متطلبات جماعة الضغط، إرضاء لعشوائية الصوت الشعبي العالي، الذي يغطّي على غيره من الأصوات الموازية والمتناقضة بصخبه وإلحاحه.

وبغض النظر عن كون ما يتم الرضوخ إليه في نهاية المطاف أمرًا صحيحًا أو خاطئًا، سليمًا أو مريضًا، مدروسًا أو ساذجًا، فإن الأمر الثابت في هذه الأمور التقديرية الخلافية المثيرة هو طغيان القوة الإلكترونية المتوحشة، وقدرتها الفائقة على السيطرة والتحكم والحسم، وتغيير ما هو قائم في الثقافة، شأن بقية المجالات.
من هذه الشواهد والأمثلة في عوالم الفنون والآداب، ما ترتّب على الكتائب الإلكترونية من وقف تصوير مسلسل درامي "الملك أحمس"، منذ أسابيع قليلة، وتأجيل عرض مسلسل "اللعبة 2"، والإشادة بثالث من دون مبررات فنية هو "لعبة نيوتن"، وفسخ تعاقد مع المؤلف والمخرج محمد سامي بسبب "نسل الأغراب" الركيك، والتشكيك في وطنية الكاتب يوسف زيدان بسبب منشوراته حول القدس، ووصم مبدعين ومثقفين وناشطين ثوريين بالتحرش.. وفي وقت سابق اتهام الشاعرة فاطمة ناعوت بازدراء الأديان، والروائي أحمد ناجي بمخالفة ثوابت المجتمع، ونقّاد بالمجاملة والجهل (بسبب تقاريرهم لاتحاد الكتّاب التي أجازوا فيها أعمالاً مسروقة لأدباء شباب)، وإحالة هؤلاء جميعًا إلى المحاكمات القانونية والتأديبية، والتوصية بتغيير "لوغو" المتحف المصري الكبير، وقرار استبدال غلاف مجلة ثقافية قيد النشر هي "عالم الكتاب" بحجة اعتدائها على الذوق العام (لنشرها صورة الروائي أحمد مراد في الغلاف)، إلى آخر هذه الوقائع و"التريندات" المعروفة في حقول الثقافة المتنوعة.

إن الرأي العام بمعانيه الأوّلية البِكْر هو نشوء تلقائي لفكرة أو تعبير أو تعليق على قضية أو موضوع أو شخص أو حادث ما، وحدوث اتفاق صحيح أو خاطئ بين الأكثرية حوله، على الرغم من تباينهم العُمري والاجتماعي والتعليمي والإيديولوجي والسياسي والثقافي والاقتصادي. ويصل الاشتراك بينهم إلى درجة تغاضي كل منهم عن رأيه الفردي الخاص لصالح وجهة نظر الغالبية. ويشعر هؤلاء المتّفقون بأن لديهم رغبة متقاربة في التصرف بطريقة ما، إزاء الأمر الذي يلتفّون حوله، وكأنما صارت لهم مصالح مشتركة من دون قصد أو نية مبيّتة. 

لكن ما يجري تمريره في الوقت الحالي على أنه رأي عام حقيقي، في حالة الذباب الإلكتروني وكتائب اللجان الموجهة وجماعات المصالح والضغط، ليس إلا تدليسًا وادعاء واشتغالاً وتضليلًا. حتى على افتراض صحة ما يرمي إليه من أهداف، فهو رأي عام مصنوع، ملفّق، ممنهج، لم يكن ليطغى هكذا، ويُتداول في فضاء الغالبية، لولا النفخ العمديّ في النار، والأداء المتواصل للجان الإلكترونية، والحسابات الافتراضية الوهمية، والبرمجيات والتطبيقات المخادعة. 

وقد صار في مقدور هذه التقنيات الحديثة تفعيل آلاف الحسابات المدسوسة والمبهمة والأكواد الزائفة في مواقع التواصل الاجتماعي (تويتر وفايسبوك بشكل خاص). والعمل، من خلال تكرار التعليقات والهاشتاغات بشكل آليّ، على فرض مفاهيم بعينها حول قضايا وأمور محددة، وتهميش أي وجهات نظر أخرى معارضة أو حتى محايدة. 

وتشير البيانات الرسمية الحديثة لشركات الاتصال إلى أن مصر من الدول التي تنتشر فيها على نحو طاغٍ، الحسابات الوهمية والمكررة والمبهمة وغير المفعّلة والمثيرة للقلق والغموض والاستفهام، كما تشير آلاف التعليقات "المتطابقة" حول قضية ما، في توقيت محدد، إلى أن شركات ومؤسسات توجه كل جهودها إلى توظيف كتائب ولجان إلكترونية على نحو واسع في المجتمع المصري. 

ويتفاقم تأثير السوشال ميديا في هذا المضمار الخطير، قياسًا بوسائل الإعلام الاعتيادية، كون وسائل الاتصال الاجتماعي أكثر مرونة وخفة وواقعية وجاذبية وآنيّة، وأسرع انتشارًا بخاصة بين الشباب، كما أنها تتيح التفاعلية وإبداء الرأي لحظيًّا لجميع المشاركين، الذين ينجرفون بشكل خفيّ إلى تأييد الموقف السائد، والسير مع القطيع.

ولا يكفي المقام هنا لاستعراض آلاف الوقائع والنماذج الدالّة على توغّل ثقافة اللجان الإلكترونية وجماعات الضغط في فرض نفوذها على المشهد المصري في سائر الميادين، خلال الفترة الأخيرة، ويكفي أن المؤسسات الدينية الراسخة ذاتها (مثل الأزهر ودار الإفتاء) باتت تدلي بدلوها هي الأخرى بقوة في هذا النهج الملغوم، بهدف تشكيل الرأي العام وتوجيه مساره وفق اعتبارات مرسومة بعناية. 

من ذلك، مشاركة "مرصد الفتاوى التكفيرية والآراء المتشددة" التابع لدار الإفتاء المصرية في الترويج لأعمال سينمائية وتلفزيونية وطنية في صفحات التواصل الاجتماعي، وبثّ تقييمات مجتمعية وأخلاقية ودينية وتعليقات داعمة لأعمال من قبيل فيلم "الممر" السينمائي الحربي المصري (تأليف وإخراج شريف عرفة) بوصفه قد أذكى الروحَ، وحرر الذاكرة الوطنية من زيف الإعلام المُعادي، ووجَّه ضربة قاصمة للمخرّبين. وكذلك إشادة دار الإفتاء بمسلسل "الاختيار"، ومشاركتها في الهاشتاغ الخاص به في فايسبوك، وتأكيدها أن "الإسلام لم يحرّم الفن الهادف"، وهي الممارسات الإلكترونية التي ساهمت بالفعل في رفع هذه الأعمال إلى صدارة المشاهدة، بعيدًا من تقييمها الفني، رغم أنها قوبلت بممارسات مضادّة من لجان جماعة "الإخوان" وكتائب التيارات الدينية المتشددة، التي حاولت صنع رد فعل مناهض، ووصفت بدورها مسلسل "الاختيار" بأنه دعوة إلى التفرقة والتمييز واستدعاء الخلاف المجتمعي، في وقت يتطلب توحيد الصفوف الوطنية في مواجهة أزمة "سد النهضة" الإثيوبي.

هكذا، بين رحى المعارك الإلكترونية المتضاربة، يغنّي كلُّ فريق على ليلاه، زاعمًا أن قيادة الرأي العام في يديه، وأنه الوصيّ على الجماهير، والمتحدث بلسانها. وبحجم جيوش الكتائب الإلكترونية واستبسالها في أدائها وانتهاجها سبلًا إقناعية، تكون الغلبة لفريق على الآخر في هذه الجبهة أو تلك. وما اهتزاز صورة سامح شكري، وزير الخارجية المصري، بعد تصريحاته الأخيرة بشأن عدم تضرر مصر من الملء الثاني لسد النهضة، إلا بسبب انتفاض حملات السوشال ميديا ضده، والسخرية الجماعية من عباراته، في مقابل ضعف حجج اللجان الإلكترونية المؤيدة له، وتهافت منطقها.

وبعيدًا من القضايا الكبرى، والأمور الجماعية المهمّة، فإن اللجان الإلكترونية وجماعات الضغط قد امتدّت بثقافتها ونفوذها إلى حيّز العلاقات الشخصية والانتفاعات المادية والمنافسات التجارية والنزاعات الصغيرة، وتغلغلت في نسيج المشهد المصري برمّته. وما معركة الفنان محمد رمضان، والطيّار الراحل أشرف أبو اليسر، سوى ضرب من هذا التراشق الإلكتروني، والتراشق المضادّ، وكذلك "خناقة" الفنانة مها أحمد الأخيرة، مع كل من الفنانين أحمد السقا وأمير كرارة، و"النفسنة" الرمضانية السنوية من برنامج مقالب "رامز جلال" من أجل محاولة إيقافه رسميًّا وتقليم أظافر أرباحه الخيالية بموجب "تفويض من الشعب"، إلى آخر هذه الظواهر التي تكشف بوضوح وسائل استغلال الجماهير في الوسط الثقافي والفني، والسعي إلى استقطابها، من أجل تحقيق منفعة ذاتية، أو الحسم من رصيد الآخرين.

وقد يصدف أن يقود الرأي العام المصنوع عبر السوشال ميديا، إلى أمر إيجابي، كالتريّث في استكمال مسلسل "الملك أحمس" مثلًا من جانب الشركة المنتجة، بعد سيل الانتقادات للأخطاء التاريخية والسمات الشكلية لبطل العمل، عمرو يوسف، وإن كان البعض ضدّ محاكمة عمل قبل مشاهدته. لكنّ التعويل على الرأي العام المصنوع يقود عادة إلى تضليل، كما هو الحال في مسلسل "لعبة نيوتن" مثلًا، من تأليف وإخراج تامر محسن، وبطولة منى زكي، إذ دفعت جماعات المصالح إلكترونيًّا في اتجاه امتداح العمل وتحية مخرجه وبطلته اللذين يمتلكان العلاقات والصداقات الواسعة في الوسط الفني والإعلامي، رغم ركاكة العمل وتدنّيه على كل المستويات.
أما الرأي العام الحقيقي، والطبيعي، الذي ينشأ تلقائيًّا إزاء موقف أو قضية أو ظاهرة أو أمر ما، فرغم ندرة وجوده في عصر اللجان الإلكترونية، فإنه قد يحدث أن يظهر ويتبلور، ويكون صادقًا في أحكامه. لكنّه بمجرد ظهوره، تتبنّاه وترعاه اللجان الإلكترونية صاحبة المصلحة في تعميقه وانتشاره، كما حدث مثلًا إزاء انتفاضة السوشال ميديا ضدّ تماثيل الميادين العامة المشوّهة في ربوع مصر، وبالطبع كان هناك غاضبون بالفعل من هذه الأعمال السيئة، لكنّ كتائب المعارضين لسياسات وزارة الثقافة المصرية، والمحليّات، والحكومة كلها، تبنوا تعليقات الغضب المتناثرة هنا وهناك من أفراد، لتكون صرخة كبرى جماعيّة مدوّية، لإحراج المسؤولين الرسميين في الدولة.

وفي المقابل، مثلًا، استغلّت اللجان الإلكترونية التابعة للحكومة نجاح حفلة "الموكب الملكي" لنقل مومياوات المتحف المصري إلى المتحف القومي للحضارة في إبريل/نيسان الماضي، من أجل الدعاية الساذجة لإنجازات الحكومة عبر السوشال ميديا، والترويج لرأي عام مصطنع يُظهر التفاف الشعب حول سياساتها بصفة عامة.