هذه فلسطين، فأين نحن؟

محمد صبحي
الإثنين   2021/05/17
تظاهرة لنصرة فلسطين في واشطن (علي علوش)
"لإسرائيل الحق في الدفاع عن نفسها، مثل أي دولة أخرى". لازمة يكرّرها رؤساء دول وحكومات غربية كحقيقة أو كبديهية أساسية، متناسين ومتغافلين عن الحقائق الأصلية والشواهد الواقعية التي تدحض كل السرديات الإسرائيلية والناطقين باسمها والمدافعين عنها. فلا ميزان قوى متعادلاً بين طرفي "الصراع"، والصراع من أساسه لا يمكن الحديث عنه طالما تعلَّق الأمر بمقاومة قوة استعمارية توسّعية لا تعرف أخلاقاً ولا تحفظ عهوداً ولا تكفّ عن قلب الحقائق ولوم الضحايا كشريعة أساسية لوجودها وتبرير أفعالها الإجرامية وإضفاء الشرعية على إجراءاتها الانتقامية.

الحاصل الآن، أن نتنياهو يريد تلقين "حماس"، وبالتالي كل الفلسطينيين، درساً، وأن يخرج فائزاً من المعركة، لحسابات سياسية وعقائدية وشخصية. يتاجر اليميني الصهيوني بالتصعيد جارّاً وراءه مجتمعاً إسرائيلياً لهاوية جنون. في ذلك، تشبه إسرائيل كثيراً من أنظمة حكم عربية أدمنت الكذب والتضليل وغسيل الدماغ لتبرير سحق معارضيها واستفرادها بالسلطة ومراكمة ضحاياها وتصدير نفسها كخيار وحيد مضمون لإدامة "الاستقرار" والأمن. وهذا التصعيد، على أثمانه الباهظة من أرواح وحياوات، جيّد، من وجهة نظر مَن يقف على أرض أصحاب الحق/الضحايا/المغلوبين على أمرهم، إذ يكشف المجرمين على حقيقتهم ويذكّر المتخاذلين بهوانهم. ثم إن الفلسطينيين، ليس لديهم ما يخسرونه أكثر مما راح بالفعل.

الأرض التاريخية ذهبت في 1948، ثم قُضمت أرض أخرى في 1967، واستفحلت الجراح من بعدها فلم يعد ممكناً مداواتها كلها، في ظل مناخ إقليمي تشيع فيه أسباب الفرقة أكثر من الاجتماع، في مقابل عدو يعرف ما يريده جيداً ويصرّ عليه بلا توانٍ ولا كلل. نَفَسَهم طويل، وجراب ألاعيبهم لا يخلو، فيما "العرب" ينهشهم التناحر ويضعفهم الانقسام وييئسّهم فساد حُكَّامهم. وهذا يقود إلى جذور الشرّ، أي ارتباط القضية الفلسطينية وإنهاء الاحتلال بتحرير الشعوب العربية من دائرة القهر "الوطني" والتفقير والتيئيس. ليست المسألة "صراعاً" بين الفلسطينيين وإسرائيل، أو حرباً بين "حماس" والدولة الصهيونية، بل جوهر الأمر كله هو احتلال أرض وتهجير سكّانها الأصليين والإصرار على إبادتهم لإكمال حلم توراتي مجنون بالسيطرة على كامل أرض فلسطين. هذه بديهيات وفاتحة أي حديث.

لا مجال لأي حديث كاذب عن "ديموقراطية" إسرائيل وضرب المثل بها وسط غابة من "جيرانها" العرب الهَمَج، ولا بالطبع عن "علمانيتها" التي تكذّبها عقيدة متطرّفيها وساستها الذين أعلنوا يهودية الدولة. هذا نبت شيطاني خرج في لحظة ضعف كاملة، ورعته أيدي المذنبين والباحثين عن تكفير خطاياهم، ثم اشتد عوده فتبجّح ونشط في فعل ما يعرفه: الاستيطان والتهجير والقتل. السيء في الأمر أن نحتاج بعد كل هذه السنين، بمجازرها ومذابحها الإسرائيلية وضحاياها وشهدائها العرب، للتذكير بالبديهي والأصلي لمن يعتبرون أنفسهم عرباً أو يرون فيها ممكنات قيادة عربية، من الصاخبين في ضلالهم وتهافتهم للنوم في أحضان العدو والتحدث بلسانه والتفكير بمنطقه. هم أيضاً نبت شيطاني، بلا أصلٍ ثابت أو مبدأ إنساني، لا يعرفون ولا يفهمون إلا لغة الأرقام والمصالح ولا يقيمون وزناً للأخلاقي والإنساني.

لكن هذا حالنا، وحال العالم الذي نعيش فيه. البلدان العربية جميعها تعاني أزمات سياسية وإجتماعية وثقافية واقتصادية خانقة لا يمكن معها التعويل كثيراً على مبادرة أو فعل شعبي، والتجربة الوطنية/القومية فشلت فشلاً ذريعاً وأضحت رهينة الخضوع للهيمنة الأجنبية، بصور شتّى وسافرة. حالة تشبه كثيراً الحالة العربية في مطلع القرن العشرين، زمن الاغتصاب الأول، حيث التيه والتخلُّف والتبعية والانكسار والفساد المؤسسي ورعاية مصالح النخب الحاكمة. لحظة الوعد التي جاءت بها انتفاضات ربيع 2011، والأمل بأوطان محترمة ولائقة تسود فيها الديمقراطية والكرامة والعدالة؛ لم تعش طويلاً وأجهضها أعداء الحرية، من المُطبّعين والمعتدلين والممانعين على السواء. وهذا يقول شيئاً عن الترافق البديهي بين تحرير فلسطين وتحرير بلدان العرب من مغتصبيها "الوطنيين". بهذا المعنى، فلسطين هي وعدنا جميعاً بالحرية وبالعيش الكريم وإنهاء الاستعمار فعلياً.

الآن لحظة مهمة، وفاتحة طريق يمكن البناء عليها كي يمتلك الفلسطينيون (في كامل فلسطين) صوتهم سياسياً، من دون انتظار مَن يتعطّف عليهم بتسوية جديدة تُغتصب فيها حقوق أكثر. ومن النافل القول بأن هذا أصبح ممكناً بالسبيل الوحيد الذي تفهمه إسرائيل: القوة والمقاومة. كل نقد "عقلاني" للمقاومة الآن، لا محلّ له، ومشبوه. التفاوض لا يجدي نفعاً إذا لم تؤيده قوة، وما التاريخ الطويل للمفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية إلا كشف حساب حزين للتنازلات والخسائر من جانب أصحاب الأرض. الآن، بإثبات المقاومة الفلسطينية لقوّتها وتطوّرها، رغم الحصار الشامل لغزة، يبدأ كلام جديد وتنشأ أرض جديدة للتفاوض، بالتوازي طبعاً مع الحراك السياسي اللازم والمتمثّل في استعادة الفلسطينيين لفلسطينيتهم، تنظيمياً وسياسياً، لاستكمال معركة طويلة وشاقة لاسترداد الحق بمواجهة عدو يعرف تماماً أهمية النَفَس الطويل.