عبادة صدام حسين

محمد حجيري
الأحد   2021/04/25
صدام
يبيّن آرون أ‍م. فاوست في كتابه "تبعيث العراق/ شمولية صدام حسين"(عطفاً على المقال السابق) استناداً إلى أرشيف القيادة القطرية البعثية الصدامية، أنّ شعارات حزب البعث والمراسلات الحزبية والوزارية، حتى في المسودات والملاحظات المكتوبة باليد، كانت تزيّنها ومقتطفات موجزة من اقوال صدام حسين. تبدأ كل قطعة من المراسلات الحزبية ب‍‍ِ "تحية رفاقية" وتذكر بعبارة "دمتم للنضال" في نهايتها، وتتضمن الثناء للحزب والقائد والأمة: أو الثالوث الصدامي البعثي. ويُطرح الولاء لهذا الثالوث على أنه الهدف الرئيس للوجود، حتى إلى حد التضحية بالنفس. 
يؤكد الكاتب أن طبيعة الأسلوب الأدبي لأرشيف القيادة القطرية وأعرافه وطقوسه تكشف ظاهرتين عامتين. الأولى، خلال فترة رئاسة صدام، تطورت العقيدة المزعومة للنظام البعثي من الفلسفة العامة التي ركز عليها الحزب إلى العبادة الشخصية. وأعاد صدام صياغة إيديولوجية الحزب، عن طريق الاحتفاظ بشرعية عناصر نظريات مؤسس حزب البعث ميشيل عفلق في حين نقل تلك الخصائص لنفسه واستخدمها ليبرر سياسات نظامه. 


الصدامية صنو الستالينية، فبعد وفاة لينين قام ستالين بتوطيد سيطرته الشخصية على الاتحاد "استولى على عباءة لينين والكثير من البلاغة البلشفية..." واستبدل الأممية بالقومية، كذلك وطد صدام سلطته من خلال علاقته بالرئيس العراقي أحمد حسن البكر، وكذلك قبضته على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية، واستعداده لاتخاذ إجراءات وحشية ضد منافسيه السياسيين والإيديولوجيين داخل حزب البعث. وفي أثناء ذلك، إلتزم بأن أفعاله تستجيب لرغبات البكر، ومبدأ "القيادة الجماعية"، والفلسفة البعثية للمؤسس ميشيل عفلق. في الوقت الذي كان فيه صدام يؤكد باستمرار التزامه بالعروبة خلال رئاسته، تبنى في الواقع التركيز على "مركزية العراق". ولمست النساء تحرراً نسبياً في ظل البعث في السبعينات. إلا أن المفاهيم العشائرية والإسلامية الأكثر تحفظاً لأدوار الجنسين قد أحكمت السيطرة تحت حكم صدام. لذلك "فإن كان هناك فجوة بين البلشفية والستالينية،" هناك أيضاً فجوة بين بعثية البكر وعفلق وبعثية صدام حسين. بما أن بعثية صدام لم تستمد بشكل صافٍ من الفكر البعثي الأصلي، لأنها تختلف في بعض النواحي عن البعثية الممارسة في سوريا في الوقت نفسه، ولأن عبادة شخصية صدام تحتل هذا الدور الكبير فيها، لذلك أشير إليها ب‍‍ِ "البعثية الصدامية". ويظهر أرشيف القيادة القطرية أنها تتكون من ثلاثة عناصر رئيسة. أولاً، احتفظ صدام باللغة والشعارات والضرورات الأخلاقية للنظريات المؤسسة للحزب، كما عرضها عفلق. لكنه ولكي يجعل العقيدة البعثية تخصّه، أدخل مفهومين إضافيين: عبادة الشخصية لديه وفكرة "تطبيق" المُثل البعثية، أو "وضعها قيد الممارسة" عن طريق "بناء" إنسان بعثي قوي، ومجتمع، وأمة من كل جوانبها. وعبادة شخصية صدام جعلت منه "نبي البعث الرئيس"، ما أعطاه نظرة حصرية إلى "احتكار الحقيقة التاريخية التي تبطن ادعاءات الحزب بالشرعية. مع هذه القوة، سمح تشدد صدام ب"تطبيق" الإيديولوجية البعثية بتفسير مبادئ عفلق المبهمة حسب رغبته".

المجزرة هي البداية 
يحدد بعض الباحثين جهود صدام لإحلال بعثيته محل بعثية عفلق والبكر بتاريخ يعود إلى عام 1980. منذ منتصف السبعينات على الأقل، أصبح معروفاً محلياً وعالمياً "بأن صدام، وليس حسن البكر، هو الشخصية المهيمنة في النظام. لذلك لم يكن مفاجئاً عندما تولى صدام رسمياً من البكر في تموز 1979. الطريقة التي قام فيها بذلك حددت الأسلوب لبقية فترة رئاسته. اجتماع مغلق لقيادة البعث تبعته استقالة البكر. في الاجتماع، عُرض شريط فيديو أمام القيادة لأحد أعضاء مجلس قيادة الثورة، يعترف بمشاركته بمؤامرة سورية للإطاحة ب‍صدام. أشار إلى عدد آخر من أعضاء حزب البعث كانوا جالسين بين الحضور. عند النداء على أسمائهم، جاء الحرس وأخذوهم خارج القاعة، وهم غالباً يصرخون بتمجيد صدام الذي صعد عندها المنصة، وقام، وهو يدخن السيكار ويمسح دموعه، بتوريط آخرين. عندما انتهى، طلب صدام من أعضاء البعث الآخرين بإطلاق النار على رفاقهم، و"اختار الأقرباء ليقتلوا بعضهم والجيران ليقتلوا جيرانهم". ويظهر أرشيف القيادة القطرية أن عبادة شخصية صدام، كانت قد أصبحت راسخة بالفعل في عام 1979. والغرض الرئيس من ذلك هو تأكيد وتمكين صدام سلطته المطلقة التي لا يمكن المس بها وبأنه القائد الشرعي الأوحد للبلاد. وقد عظمّت الألقاب التي أعطاها حزب البعث والمواطنون العراقيون ل‍‍صدام من مقامه. لقد أسطروا شخصه وجعلوا منه حرفياً "رمز" الأمة والشعب والحزب. أطلق المواطنون كذلك اسمه على أطفالهم جماعياً. تقول إحدى الوثائق من 1 أيلول عام 2002 أن هناك 14148 طفلاً يحمل اسم صدام ولد في تلك السنة. 
 ظهر صدام في لوحات جدارية وإعلانات وأفلام وبرامج تلفزيونية وكتب وقصائد شعرية. وظهرت أقوال حسين أيضاً في كل مكان، وتجمعت سلطته من عدد من المصادر. قسوته الشخصية، جاذبيته، وقبضة قوية - وجاهزة للاستخدام - على أجهزة الاستخبارات والأمن توحي بالخوف والارتياب وسطَ مرؤوسيه والشعب. جعل صدام من العراق صداميا بعثياً في مختلف المجالات والمؤسسات وفي المجتمع والدين، وهو وان لم يكن يريد ان يتأسلم لكنه كان يسعى الى بعثنة او تبعيث الدين والمؤسسات الدينية، لأن الدين خصوصاً الإسلام - يقدم مجموعة من التحديات لسلطة نظامه وشرعيته. هددت السلطات الدينية البعث بشكل عام لأنها نشرت نظم إيمان شاملة تنافس "فلسفة البعث العامة في الحياة".


بشكل خاص، ثبت أن علاقة البعث مع المؤسسة الشيعية كان الأكثر خطورة على نظامه. وجد البعث في عقده الأول من الحكم الذي كانت قيادته من السنة في المقام الأول، أن الهجوم بشكل عنيف على المؤسسات الدينية الشيعية، وقادتها، والشعائر العامة، قد أدى إلى نتائج عكسية، حيث أنه وحد غالبية الشيعة ضد الأقلية البعثية الحاكمة. خلال الأيام المقدسة السنوية لدى الشيعة في شهر محرم، يحتشد ملايين الشيعة من كل أنحاء العالم في مدن المزارات المقدسة العراقية في النجف وكربلاء، حيث يشاركون خلالها في مواكب جماعية وينخرطون في طقوس حداد عاطفية للغاية. من عام 1969 حتى عام 1977، تحولت سلسلة من هذه المواكب والطقوس إلى مظاهرات منددة بالحكومة للاحتجاج على سياسات البعث تجاه المؤسسة الدينية الشيعية وللتعبير عن سخط عام تجاه النظام. في مناسبات قليلة، فقدت الحكومة السيطرة على المظاهرات واضطرت إلى الاستعانة بالجيش لقمعها.

ثبت أنه من الصعب السيطرة على زعماء الدين الشيعة بسبب نفوذهم واستقلالهم المؤسساتي والمادي عن الدولة العراقية. حتى اندلاع الثورة الإيرانية والسياسات القمعية البعثية كان معظم الزعماء الشيعة الرسميين، وهم "مراجع التقليد"، يعيشون في النجف وكربلاء. على عكس نظرائهم السنة، الذين كانوا يرتبطون بالسلطة السياسية العراقية على مدى قرون، كانت مراجع التقليد تلك، ولا زالت، مستقلة عن الدولة العراقية. لم تكن السلطات السياسية تقرر عادة من سيكون المرجع. 

في الواقع جرّب صدام استغلال الدين لكنه تعثر، أشار عدد من الباحثين إلى أن صدام زاد من كثافة وتكرار خطابه الديني خلال وبعد حرب الخليج في بداية التسعينات. أطلق أيضاً "حملة إيمان" وطنية في عام 1993، قدمت هذه الحملة دعماً علنياً من الدولة للرموز الدينية والقوانين والممارسات والتعليم والمؤسسات. فعل صدام ذلك من أجل التلاعب في تصاعد الشعور الديني في العالم العربي والإسلامي من أجل أغراض داخلية ودولية وأيضاً لأن خطابه العروبي أثبت فراغ محتواه بعد غزوه الكويت. تظهر وثائق أرشيف القيادة القطرية أن جهود صدام في التبعيث تجاه الدين لم تنجح دائماً. لم يتمكن النظام أبداً من إنهاء ممارسة الشعائر الدينية بشكل كامل، وحتى بعض البعثيين، من الشيعة والسنة، استمروا في ممارستها. تكاثر الخطباء والميول السلفية في التسعينات، ولم يتمكن البعث من إيقافهم كلهم من إلقاء خطبهم علناً. استمر حزب الدعوة بالعمل السري خلال فترة حكم البعث، وقد نجح في بعض الأحيان في تنفيذ هجمات ضد مسؤولين في النظام...

 قلنا ان الحقبة الستالينية في الاتحاد السوفيتي تعرف بأنها واحدةً من أكثر المراحل إجراماً في التاريخ، في وقت كان فيه الخوف الذي زرعه النظام يدفع الكثير من مواطني هذا النظام إلى الامتثال والطاعة. وكما هو الحال تحت حكم ستالين، فقد استهدف النظام العراقيين الذين يعدهم "خونة" أو "مجرمين" أو "أعداء" أو "مخربين": وهم الأشخاص الذين أثبتوا، أو أن البعث يشك بأنهم، معارضون للأهداف العقائدية أو السياسية للنظام. مات الكثيرون من الأبرياء على يد الدولة البعثية بسبب القوة الاعتباطية الخارجة عن القانون التي مارسها صدام وأجهزته، وبسبب الحوافز الهيكلية الكامنة في هذه الأجهزة، وبسبب التعريف الواسع للبعث ل‍‍ِ"أعدائه". لكن على عكس فرضية 'جمهورية الخوف' التي اطلقها كنعان مكية، يقول فاوست لم أجد أي دليل في أرشيف القيادة القطرية على أن الدولة البعثية حكمت بالترهيب بشكل عشوائي من أجل ترسيخ الخوف"...

كان العراق 'جمهورية خوف'، وكان أيضاً 'جمهورية مكافآت وولاء. لتكملة عنفه ومراقبته، خلق صدام والبعث نظاماً واسعاً من الجوائز والأوسمة والمراتب الشرفية تتيح لحامليها فوائد مادية ومهنية وأكاديمية واجتماعية وغيرها. يفوز العراقيون بهذه الجوائز عن طريق إظهار ولائهم للثلاثية البعثية. 

خاتمة
في المحصلة، لم ينجح حسين والبعث في السيطرة على كل تفصيل في حياة كل عراقي، لكن كجزء من تطلعهم لتقوية سلطتهم وتطبيق مبادئهم اليوتوبية، استهدف التبعيث العراقيين على كافة مستويات وجودهم الفردي والشعبي. أثّرت سيطرة البعث على من يمكن أن يتزوج العراقي، ومتى، وكيف، وأين يسافر، والأعمال الفنية التي يراها، والكتب التي يقرأها، الشعر والموسيقى التي يستمع إليها، والمنظمات المدنية والمهنية التي ينضم إليها، والمدارس التي يدرس فيها، والوظائف التي يحصل عليها، والمحادثات التي يجريها في منزله. حاول البعث أن يحول الإيمان الديني للعراقي إلى إيمان بعثي.   

صمم صدام والبعث نظام السيطرة الخاص بهم من أجل قيادة العراقيين في طريق الطاعة، وشكل التبعيث ذريعة أخلاقية وقانونية ومعيارية للعراقيين للامتثال. على الرغم من أنه كان بإمكان العراقيين تقديم مقترحات، أو انتقاد سياسة الحكومة، أو الاعتراض على قرارات رؤسائهم، فإن الالتماسات التي كانوا يقدمونها ل‍صدام تظهر أنه كان بإمكانهم فعل ذلك فقط بعد تمجيده هو والثورة والبلد.  

يسأل فاوست هل نجح التبعيث؟ ويقول لا توجد إجابة واحدة. عند مواجهة الضغوط المجتمعة لإيديولوجية التبعيث، والتنظيم، والترهيب، والترغيب، فإن بعض العراقيين هربوا من البلاد. وآخرون انضموا إلى جماعات معارضة. إلا أن أرشيف القيادة القطرية يشير إلى أن كتلة جماهيرية كبيرة استسلمت إلى مستوى ما أمام الحدود التي وضعت على أفكارهم وسلوكهم. في الوقت والمكان الذي نجح فيه البعث في تطبيق مجموعاته الأربع من السيطرة، مال العراقيون إلى التصرف وفق رغبة النظام. لم يحدث هذا الأمر بالضرورة لأن البعث حوّل العراقيين إلى مؤمنين لكن لأن العراقيين تعلموا ماذا يريد النظام منهم أن يقولوا ويفعلوا في أوضاع معينة.  
 
يقول فاوست أن التبعيث أسس لهيمنة حسين والبعث، إلا أنه لم يوطد شرعيتهما. نادراً ما بدا أنه تمكن من استخراج مشاعر حقيقية من الارتباط أو الإيمان. يمكن الدلالة على ذلك من حقيقة أن درجة امتثال العراقيين مع رغبات النظام توافقت عادة مع قوة السيطرة التي يمكن للنظام تطبيقها في وقت ومكان محددين، وكم على العراقيين أن يخسروا أو يربحوا بإظهار الولاء. لكي يصبح الشخص ضابطاً في الجيش العراقي، عليه أن ينضم إلى حزب البعث، لكن بعد الحرب العراقية الإيرانية ترك مئات آلاف الجنود الحزب عندما تركوا الجيش. وبشكل مشابه، غادر العراقيون في منطقة تنظيم الفرات وحداتهم الحزبية في بداية التسعينات عندما لم يعد هناك ضرورة للانضمام إلى الحزب من أجل الحفاظ على وظائفهم. عندما اندلعت الانتفاضات الشعبية بعد حرب الخليج في عام 1991، أظهرت سجلات أرشيف القيادة القطرية أن قلة من أعضاء الحزب أبلغت عن مواقعها للدفاع عن المنشآت الحكومية والبعثية في المناطق التي فقد فيها الجيش والأجهزة الأمنية السيطرة.


 (*) الكتاب صادر بالإنكليزية العام 2015 لدى "منشورات جامعة تكساس"، ترجمته الى العربية عبير مرعي، مراجعة محمد مظلوم، ويصدر قريبا عن منشورات الجمل.