مسجد طبرية وقصرها الأموي

محمود الزيباوي
السبت   2021/02/13
غرفة من القصر الأموي في خربة المنيا.
تناقلت وسائل الإعلام العالمية مؤخرا خبراً يتحدث عن العثور على أطلال أحد أقدم المساجد في العالم في ضاحية من ضواحي مدينة طبرية، تطلّ على الضفة الغربية للبحيرة. أُعلن عن هذا الاكتشاف رسميا في مؤتمر أكاديمي بعد حملة تنقيب واسعة استمرّت أحد عشر عاما، وقيل ان هذه الأطلال قد تكون لمسجد أسّسه الصحابي شرحبيل بن حسنة، قائد الجيش الذي فتح تلك المنطقة في سنة 635 بحسب ما جاء في المصادر التاريخية الإسلامية.

في "فتوح البلدان"، استعاد البلاذري ما نقله الرواة، وقال ان الصحابي شرحبيل بْن حسنة "فتح الأردن عنوة ما خلا طبرية"، وأضاف: "فتح شرحبيل طبرية صلحاً بعد حصار أيام على أن أمن أهلها على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وكنائسهم ومنازلهم إلا ما جلوا عنه وخلوه، واستثنى لمسجد المسلمين موضعاً". كما هو معروف، سيطر المسلمون على أراضي مقاطعة "سوريا فلسطين" البيزنطية في مرحلة مبكرة، وجعلوا منها مقاطعات عدّة دُعي كل منها جندا، واعتُمد هذا التقسيم حتى نهاية العصر العباسي، كما يُستدلّ من قول ياقوت الحموي في "معجم البلدان": "وأما الجند فيجيء في قولهم: جند قنسرين، وجند فلسطين، وجند حمص، وجند دمشق، وجند الأردن. فهي خمسة أجناد، وكلها بالشام. ولم يبلغني أنهم استعملوا ذلك في غير أرض الشام". 

كان جند الأردن أصغر أجناد الشام، ومركزه طبرية، وكانت له عدة كور، منها "كورة بيسان وكورة بيت رأس وكورة جدر وكورة صفّورية وكورة صور وكورة عكا وغير ذلك"، كما يقول ياقوت الحموي في نهاية العصر العباسي. ضمّ جند الأردن أجزاء من حوض نهر الأردن ومحيطه شرقاً، وشمال فلسطين، وجنوب لبنان الحالي، وكانت عاصمته طبرية. يذكر ياقوت الحموي طبرية في معجمه، ويقول في تعريفه بها: "بليدة مطلة على البحيرة المعروفة ببحيرة طبرية، وهي في طرف جبل، وجبل الطور مطلّ عليها، وهي من أعمال الأردن في طرف الغور، بينها وبين دمشق ثلاثة أيام وكذلك بينها وبين بيت القدس، وبينها وبين عكّا يومان، وهي مستطيلة على البحيرة عرضها قليل حتى تنتهي إلى جبل صغير فعنده آخر العمارة". ثم ينقل عن أبي عبد الله بن البنّاء: "طبرية قصبة الأردن، بلد وادي كنعان، موضوعة بين الجبل وبحيرة، فهي ضيقة كربة، في الصيف وخمة وبئة، وسوقها من الدرب إلى الدرب، والمقابر على الجبل، بها ثمانية حمامات، والجامع في السوق كبير حسن، فرشه مرفوع بالحصى على أساطين حجارة موصولة".

المسجد الكبير

تحوي مدينة طبرية الحديثة بعضاً من آثار طبرية التاريخية، منها موقع في ضاحية من ضواحيها يطلّ على الضفة الغربية للبحيرة. اكتشف هذا الموقع في الخمسينات من القرن الماضي حين عُثر فيه على هيكل ذي أعمدة، وقيل يومها ان هذا الهيكل يعود إلى سوق من أواخر العصر البيزنطي، غير ان الحفريات الحديثة كشفت عن قطع فخارية وعملات معدنية من العصر الإسلامي المبكر، كما انها كشفت عن أسس مسجد يتميز بضخامة مساحته المعمارية. بدأ الحديث عن هذا المسجد في عام 2012، حيث تحدّثت عنه الباحثة البرازيلية الدكتورة كاتيا سيترين سيلفرمان، المحاضرة في الجامعة العبرية بالقدس، ووصفته بمسجد ضخم يعود بناؤه للقرن الثامن، مساحته تزيد على 7 آلاف متر مربع، ويتسع لآلاف المصلين. 

رأت العالمة البرازيلية يومذاك أن تصميم مسجد طبرية يماثل بشكل كبير تصميم المسجد الأموي الكبير في دمشق، كما انه يماثل تصميم مسجد آخر أصغر مساحة كشف عنه في تنقيبات جرش الأثرية في الأردن. غير ان التنقيبات المتواصلة أظهرت أن مسجد طبرية يعود إلى القرن السابع، أي إلى العصر الإسلامي المبكر، فعادت الدكتورة كاتيا سيترين سيلفرمان مؤخراً لتتحدث من جديد عن هذا الاكتشاف، وقالت ان مسجد طبرية قد يكون المسجد الذي وضع أسسه الصحابي شرحبيل بن حسنة حين فتح المدينة، وأوضحت أن هذه المقولة تبقى افتراضية، وأضافت: "لا يمكننا أن نقول ذلك على وجه اليقين، لكن لدينا مصادر تاريخية تقول إنه أنشأ مسجدا في طبرية عندما فتحها عام 635 للميلاد".

القصر الأميري

يشهد هذا الاكتشاف للدور الإقليمي المهم الذي لعبته طبرية في القرون الإسلامية الأولى حيث "عرفت عصرها الذهبي وبلغت أوجها كمركز روحاني وتجاري"، كما تؤكد الباحثة البرازيلية. في "معجم الإسلام التاريخي"، يشير الباحثون الفرنسيون إلى هذا الدور الإقليمي المهم، وذلك لوقوع طبرية "من جهة، على الطريق الذي يصل مباشرة دمشق بالقدس، ومن جهة ثانية لأنّه شُيّد، في العهد الأموي، بالقرب منها، على بعد كيلومترات عدّة شمالاً، قصر أميري تحمل انقاضه اسم خربة المنيا، وما تزال بعض آثاره صامدة إلى يومنا هذا".

اكتشفت بعثة ألمانية هذا القصر في عام 1937، قبل نشوء إسرائيل. وبحسب ما ورد في "معجم الإسلام التاريخي"، تدلّ هذه الآثار "على أنّ الصرح نُظّم تبعاً لمخطّط نموذجي لذلك العصر". يُعرف هذا النموذج بالنموذج السوري، ويتميّز بكونه مؤلّفا من مجموعة من الشقق "موزّعة بطريقة متماثلة حول ساحة مركزية مزوّدة بأروقة، تحيط بها جدران عالية تستقرّ فيها أبراج، ولها مدخل ضخم". نُسب قصر خربة المنيا إلى الوليد الأوّل بن عبد الملك، الخليفة الأموي السادس، وقيل ان تعديلات عديدة أُدخلت عليه في عهد الخليفة هشام، وإنه تحوّل في مرحلة لاحقة إلى مركز مهمّ للمماليك، وذلك لوقوعه على الطريق اذي يربط القاهرة بدمشق. ويرى أهل الاختصاص اليوم أن هذا القصر هو في الواقع قصر أميري يعود إلى عمر بن الوليد بن عبد الملك، وهو والي جند الأردن في خلافة أبيه.
 

في خربة المنيا، كشف المنقبون عن ألواح بديعة من الفسيفساء الأرضية تتميز بطابعها التجريدي الهندسي الصرف، كما كشفوا عن قطع من النقوش والزخارف التي تتبع التقليد الذي ساد في الحقبة الأموية، وتدعو كاتيا سيترين سيلفرمان منذ سنوات إلى المحافظة على هذا الموقع الذي جعلت منه السلطات الإسرائيلية حديقة عامة مفتوحة أمام العامة، وتطالب السلطات بالعمل على ترميم ما تبقّى من آثاره، وتشدّد على أهميته التاريخية والفنية الاستثنائية. كذلك، يدعو علماء الآثار الألمان اليوم إلى العمل سريعا على المحافظة على هذا الموقع، وتحويله إلى موقع سياحي أثري له مكانته في خريطة المواقع الأثرية العالمية.