"العرض الأخير" لهادي زكّاك..سينما الإنجا قبل أن تُسلم روحها(1/2)

محمد حجيري
الأربعاء   2021/11/03
خلال البحث في جريدة "الإنشاء" والاستعانة بمايز الأدهمي مع فريق عمل الكتاب: مغالي عون و Evelyne Hlais (خلف الكاميرا)
يروي المخرج اللبناني، هادي زكّاك، في كتابه "العرض الأخير"(*)، سيرة صعود "سيلَمَا" طرابلس وازدهارها، وتشابكها مع حياة المدينة وناسها وحاراتها منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى سنوات قريبة، قبل أن تُسلم روحها مخلّفة إرثاً كبيراً من الصور والأصوات والذكريات والأرشيف... وهي في حياتها، كانت أقرب إلى المعابد الحديثة لطقوس وقصص. وتعبير "سيلَمَا" (أي سينما باللهجة الطرابلسية الشعبية) يمكن وضعه في إطار "طرَبلَسة" اللغة، على نحو ما يطلق بعض المصريين عليها اسم "سيما" (للتذكير: حين أراد العلامة عبدالله العلايلي إيجاد لفظة عربية مناسبة للسينما، كان يميل الى تعريبها بإحدى الصيغتين: سينمى، سينماء، ككيمياء، ويجري تصريفها على هذا النحو "سينم، سينمة، أي صور هذا التصوير، واستبعد إطلاقاً ما وضع لها في صدر هذا القرن، خيالة).

هادي زكاك اختار سينما طرابلس ليؤرخ ذاكراتها، و"العمل الذي يقوم به ليس تأريخاً للسينما بقدر ما هو تسجيل للذاكرة المدينية وارتباط هذا الظهور مع مراحل تطوّر مدينة بنسيرتها السياسية الاجتماعية وتحولاتها على مختلف الصعد"، حسبما كتب مايز الأدهمي في مفتتح الكتاب. ويقول زكّاك في مقدمة كتابه: "اهتمّيتُ منذ صغري بالتاريخ وبالمحافظة على الذاكرة وهذا الأمر جعلني أختار الفيلم الوثائقي منذ أكثر من عشرين سنة كوسيلة اختبار وتنقيب وسلاح لمحاربة النسيان والموت. لقد عشت الحرب الأهليّة اللبنانيّة وشهدت نهايتها في مطلع التسعينيّات وكيف تحوّلت فترة "السلام" إلى مرحلة أكثر تدميراً مع إزالة ما عجزت الحرب عن تدميره. فاختفت الكثير من الأماكن المتعلّقة بذاكرتنا الجماعيّة وترافق الإعمار غالباً مع التدمير وفقدان الذاكرة وضياع الهويّة". ويتابع زكاك: "لم يأتِ إهتمامي بالماضي بهدف تمجيده والبكاء على الأطلال، بل لبناء استمراريّة بين الأزمنة تحدّد الحاضر في بلدٍ لا يتوقّف فيه التاريخ من أن يكرّر نفسه مؤدّياً إلى الكوارث".

وبدأت فكرة الكتاب عندما ذهب هادي زكّاك لاكتشاف صالات السينما المقفلة أو ما تبقّى منها في طرابلس، برفقة الصحافيّة الألمانيّة–الفرنسيّة ناتالي، روزا بوخر، سنة 2014: "يومها أحسست بشعورٍ اختبرته قبل أكثر من عشرين عامًا عندما اكتشفت صالات السينما القديمة في وسط بيروت قبل إزالتها مع مشروع إعادة إعمار المدينة. تألمت من منطلق تاريخي لأن إزالة معابد السينما كانت تمحي تاريخ وصول السينما إلى بلادنا وازدهارها، وكل هذا الإرث العريق من هندسة وخصوصيّة للمكان الذي ينحصر اليوم في المولات التجاريّة". يضيف زكاك: "مع تدمير سينما ريفولي سنة 2016، أصبحت الحاجة ملحّة للإنتقال إلى مشروع سرعان ما أصبح مزدوجاً وبحاجة لوقت طويل لكي يضمّ كتاباً وفيلماً وثائقيًّا بهدف تسجيل الذاكرة الجماعيّة والشفهيّة، ونقل علاقة أبناء وبنات طرابلس بالسينما كمكان وكثقافة اجتماعيّة وسياسيّة"... و"حاولت تكوين شجرة عائلة سيلَما وإعادة إحياء مساء صالات وسط المدينة وشوارعها الداخلية وأحيائها الشعبية والميناء، حاولت أن أكون مشاهدها الذي يعيش جميع الطقوس".


(مسرح الانجا قبل إعدامه)

وينقل زكّاك عن طلال منجد، أن النظام السينمائي انتقل من المقاهي الداخلية إلى مقاهي محلة التل وسط المدينة، وكأن ساحة التل كانت تتحضر للتحول إلى مركز سينمائي ابتداء من الثلاثينات، خصوصاً بعد وصول التيار الكهربائي إلى طرابلس سنة 1932، وجماعة الانكليز هم من أدخلوا السينما إلى المدينة. ومع إدراك المنفعة التجارية لهذه "المعابد الحديثة"، أخذ عددها يزداد منذ الأربعينيات، ليبلغ رقماً قياسياً في الخمسينيات، وبرز استعمال التسميات الفرنسية: أمبير، أوبرا، متروبول، بالاس، رومانسي، أوديون. أما الاسماء العربية، فكانت من قبيل: دنيا، الشرق، الكوكب، وأسماء نساء مثل سلوى، ورابحة وسميراميس.

ولكل صالة حياتها ومسيرتها، فقبل أن يتحول مسرح الانجا إلى صالة سينما، برز كأول دار أوبرا وأول مسرح فعلي في طرابلس، أسسه والي طرابلس العثماني حسن الانجا، ورغب في أن يكون متطوراً على الطريقة الأوروبية، فاستقدم مهندسين إيطاليين لهندسته وبنائه، فكان درة الشرق، لا تضاهيه إلا أوبرا القاهرة، وحمل اسم "زهرة الفيحاء" تيمناً بمدينة طرابلس، وتميز بالمقصورات الفخمة والمقاعد المريحة والسقف المزخرف. وعاد المسرح الى زخمة واستقبل العديد من الفرق الأجنبية، مع ازدياد تقاطر الوفود الأجنبية، من قناصل وتجار، الى المدينة مع نهاية الحرب العالمية الأولى. كما بدأ توافد الفرق المسرحية المصرية، ومنها فرقة الشيخ سلامة حجازي وزكي عكاشة وأخوانه وفرقة اسكندر فرح... ويذكر طلال منجد، إيقاف عرض مسرحية "الذوات في أوروبا" سنة 1938 من قبل سلطات الانتداب الفرنسي بسبب تعرضها للانتداب بالسخرية. وأقيمت أيضاً حفلات موسيقيىة في مسرح زهرة الفيحاء، ومن أشهرها حفلة أم كلثوم في 15 ايلول 1931 مع محمد القصبجي. ومع ازدياد الطلب على العروض السينمائية منذ الثلاثينات، تم تجهيز المسرح بشاشة بيضاء وبآلة عرض للأفلام السينمائية، وأخد الجمهور يتفاعل مع القبضاي ويدين "الخاين" في أفلام الويسترن أو ما سمي بأفلام رعاة البقر (كاوبوي). كان التفاعل قوياً أيضاً مع افلام شارلي شابلن وباستر كيتون، وباتت السينما أشبه باختراع الحياة، أولاً من خلال الأفلام وما تحمله من أفكار وسلوكيات، وثانياً من خلال المكان، فالصالة لها طقوسها بين النور والعتمة، بين الجلوس وأخيلة الشاشة..


(سينما كولورادو في طرابلس - من كتاب "العرض الأخير" لهادي زكاك)

إلى ذلك، وبعد حمل المسرح اسماً عربياً ارتبط بالمدينة، استلمه ميشال تويني، وأطلق عليه اسماً فرنسياً: مسرح وسينما البيروكيه أي الببغاء... ومثلما تحولت "سينما" الى "سيلما"، أصبح البيروكيه يسمى البروكه بالتعبير العامي... وما لبثت سينما البروكة أن بدأت تعرض الأفلام المصرية، ومنها "دموع الحب" (1936) من إخراج محمد كريم وإنتاج وتمثيل محمد عبد الوهاب. تضمن الفيلم بعض المشاهد التي صورت في لبنان وجعلت من بلاد الأرز مركزاً للاصطياف يتكرر اللجوء إليه في الأفلام المصرية طوال 40 عاماً، أي من سنة 1935 حتى اندلاع الحرب الأهلية سنة 1975. وشهد المسرح أنشطة مهمة حتى العام 1975، عندما سرقت محتوياته ولحقه الأذى جراء الحرب الأهلية.


بعد عبد الوهاب، جاء دور فريد الأطرش في الأربعينيات الذي حقق فيلمه "عفريتة هانم" 1949، من إخراج هنري بركات وبطولة الثنائي فريد الأطرش وسامية جمال، "انتصاراً كبيراً في الاسكندرية وسوريا ولبنان". يتذكر الوزير السابق رشيد درباس، الزحمة والفوضى عند عرض "عفريتة هانم" خلال العيد، وتدخّل الشرطة لتفريق الناس الذي كان عليهم الصعود على السلم القاسي، بغية الوصول إلى صالة السينما، لكن الوزير لا يذكر سبب الزحمة، هل كان فريد الأطرش، أم قصة الفيلم، أم سامية جمال؟ للتذكير أنه في ذلك الزمن كانت الراقصة الشرقية عمود الأفلام المصرية، وتشكل نقطة جذب خاصة للجمهور العربي.

وكانت البروكة نقطة التقاء الجمهور مع نجوم السينما المصريين، تحية كاريوكا واسماعيل ياسين، ورشدي أباظة وعبد السلام النابلسي في فيلم "المنتصر" سنة 1952 من إخراج حلمي رفلة، إلى جانب عروض الأفلام الاجنبية والمسرح المحلي الطرابلسي واللبناني. ولم تكتف البروكة بكل هذه النشاطات، بل قدّمت أيضاً حفلات متنوعة، منها مثلاً حفلة نادي الزهراء للمصارعة والجمال الجسماني في نهاية سنة 1957. لكن هذا المسرح العريق فقد الكثير من أهميته واخذ يخفت أكثر فأكثر في الستينيات، لتغيب تدريجياً ملصقات الأفلام، وتحلّ محلها اليافطات مع الشعارات السياسية الرنانة. كما تصدع مبنى مسرح الانجا، وهو من المباني المصنفة تراثية، وفي ليلة ليلاء هبط سقفه، والغاية تحويله ردماً، وجرفه بحثاً عن استثمار عقاري جديد، ومزيد من الإرباح، وهذا بؤس سائد في المدن اللبنانية، اذ يتم التعامل مع الذاكرة الثقافية والاجتماعية بشيء من الخفة والسخف والحقد، والنظام السياسي حوّل العقارات وحشاً.

(*) هذه مقالة أولى عن الكتاب الضخم لهادي زكاك... يتبع

(**) هادي زكاك الذي شكّلت له السينما نقطة الإنطلاق، بدأ بتاريخ السينما في لبنان من خلال تأليف كتاب صدر باللغة الفرنسية العام 1997 بعنوان "السينما اللبنانيّة، مسار سينما نحو المجهول(1929-1996)". كما قدّم مجموعة أفلام وثائقية مثل "يا عمري"(2017)، و"كمال جنبلاط، الشاهد والشهادة"(2015)، و"مارسيدس"(2011)، و"درس في التاريخ"(2009). أيضًا تابع التحوّلات التي شهدَتها بيروت وأنجز أفلاماً عنها وعن المجتمعات الدينيّة وسيطرة الطائفيّة.