في اليوم العالمي للصّحة العقلية..أشهر المبدعين جنوناً

دجو القارح
الأحد   2021/10/10
ادغار ألن بو
في اليوم العالمي للصّحة العقلية في 10 أكتوبر من كل عام، رحلة إلى الأعماق، إلى العقدة الخفية، إلى الشعلة المستورة الّتي أوصلت حرائقها إلى العالم أسره. الجنون، الإنتحار، تعاطي المخدرات، إنفصام الشخصية، الإكتئاب... كلّها مفردات وحالات تنبثق من المنبع نفسه: الصحّة العقلية. أصبح الموضوع "يأكل معنا في الصحن" إن صحّ التّعبير، لكنّه رغم الإرتفاع والإنتشار الواسع الذي يلحظه هذا الحقل المرضي، إلا أننّا لا نزال، كمجتمع وكأفراد، نغلّفه جيّدًا بالعَيب.


مناسبة هذا المقال ليست أبدًا للتّوعية عن الأمراض العقلية والصّحة النّفسيّة لأنّها أصبحت من البديهيّات في عصرنا اليوم، عصر الفرد والتكنولوجيا. في الحقيقة، هدفه الوحيد، هو تسليط الضّوء على الجانب الفنّي لهذه المشكلات، جانبها الجميل، الذي يغيّبها وراء ستارة المسرح، أو ألوان اللّوحة، أو صوت الغيتار. يقول الكاتب الاميركي إدغار آلان بو عن الجنون مثلًا: "لم يشرح لنا العلم بعد إذا كان الجنون قمّة الذكاء." ما يحاول إيصاله بو في كلامه هذا، هو محاولة للكشف عن وجه الجنون وأخوته من الأمراض، ليرينا القسم المخبّأ منها.

لقد رعى الخلل العقليّ جميع أنواع الفنون والعلوم على اختلاف انخراطها في ميدان العالم الواسع، لكنّه بقي حتّى اليوم المؤسّس المجهول، ليس لجهلنا هويته، إنّما، وللأسف، لتهرّبنا من الإفصاح عن وجوده ونَسب النجاح المعقول إلى محرّك غير منطقيّ. علاقة متناقضة وصلت حدّ إلغاء أحد فرديْها. هذا كلّه جزئيًّا مقبول، لكن إذا عدنا إلى تعريف الفنّ ألن نجد الجنون جوهرَه؟

ما هو الفنّ؟ إنه الجنون بكاملها وجوهره. القطيعة مع الواقع، ضياع الحواس في بلاد الخيال واستحالت التعبير عنه بالوضوح. لا علاقة بينه وبين المنطق، بينه وبين الحقيقة المرئيّة. لا نحصر الفنّ هنا بالمذهب السورياليّ، فالمذاهب الأخرى وعلى اختلاف تصوّرها للعالم والخارج تبقى مرتكزةً على أساس لا يقبل النقاش به، لأنه لا يناقش. وهل من أمر لا يجادل به سوى غير المنطقيّ؟ إذًا، الفن جانب الجنون الجميل فلماذا سحب البساط من تحت هذا الأخير.

في حقل الكتابة برز العديد والعديد من المفكرين، الأدباء والشّعراء الذين عاشوا مع أمراض عقليّة، تعايشوا معها وتأثروا بها حتّى أصبحت عند بعضهم الغاية والسّبيل في آنٍ واحد. أوّله إدغار آلان بو صاحب القول المذكور آنفًا، وتمشي القافلة: إرنست هامنغويّ ومشاكله العقليّة بعد إدمانه الشّديد على الكحول إضافة لإنتحاره في ما بعد ببندقيته المفضّلة، جاك كرواك صاحب الكتاب الشهير "على الطّريق" وأحدّ أهم أعمدة ال" Beat Generation" هو الذي كان يتعاطى الماريغوانا والبنزردين ويكتب سَفَره حتّى وصل له الحال ليُشخص على أنه يعاني من إنفصام الشّخصية، وأخيرًا وليس آخرًا، الشّهيرة فيرجينيا وولف التي عانت من الإغتصاب والتحرش الجنسي على يدّ إخوتها ما أدّى بها للإكتئاب وفي نهاية المطاف إلى الإنتحار. كانت الكاتبة الشهيرة لسان حال المرأة في أصعب أوقاتها، أيقونة النّسويّة المنسيّة.


تقول وولف في رسالتها الأخيرة لزوجها قبل الإنتحار مغرقةّ نفسها في مياه النّهر: "عزيزي، أنا متأكّدة أنني أجنّ من جديد. لا أستطيع أبدًا العودة إلى هذه الحالة إطلاقًا ولا أرى أملًا بالشفاء هذه المرّة. أسمع أصوات غريبة في أذنيّ ولا أقدر على التّركيز. سأفعل ما يجب عليّ حقًّ القيام به. أعرف أنك أعطيتني أكبر سعادة يمكن للمرء عيشها، ولا أظن أن العالم سيعرف عاشقًين أكثر فرحًا مما كنّا عليه حتّى وصول هذا المرض الخبيث. أعلم أنّي أفسد حياتك، بدوني وبدون مشاكلي يمكنك العمل براحة- أعلم أنّك ستفعل. أترى أنّني لا أتمكنّ من الكتابة جيّدًا؟ كل ما أريد قوله هو أنني أدين لك بكل سعادة حياتي. كنت صبورًا والجميع يعلم ذلك...".

أما في حقل الرّسم، يُعتبر الرسام الهولنديّ فنسنت فان غوخ من اهمّ الفنّانين الذين عانوا من الإضطرابات العقليّة، فقد شخّصت لديه حالات من الهلوسة والإكتئاب المزمن إضافةً إلى ما يُعرف اليوم بال"Bipolar Disorders". ولعلّ أشهر قصّة تروى عن فان غوخ وجنونه العظيم هي عندما قطع أُذنه. ويذكر المؤرخون الفنّيون أن فان غوخ عانى ليلتها من نوبة هلوسات حادّة أفقدته وعيه وقبل حصول هذا كان قد اقتطع أذنه مستخدمًا السّكين. لكن هذه النّوبة لم تكن محطّ صدفة، خصوصًا تلك اللّيلة. فبعد عراك طويل بينه وبين جاره الرّسام الفرنسيّ بول غوغان عاد فان غوخ الى منزله حيث جلب السّكين ليهاجم المعتدي لكنّه كان قدّ فرّ، عوضًا عن ذلك عاد إلى منزله وهنالك وقع المحظور. يُذكر أن الرسام الهولنديّ أيضًا مات منتحرًا بعد إطلاقه رصاصتين استقرّتا في معدته أدت إلى وفاته بعد يومين في منزله.

ايضًا في مجال الرّسم، يعتبر الإنكليزي لويس واين من الفنّانين الغريبي الأطوار ليس في حياتهم الشخصيّة أو اليوميّة إنما في موضوع نتاجهم، إذ إنّ لويس، لم يضع في لوحاته إلّا القطط لكن ليس بصورة طبيعيّة. أوّلًا، يضعهم داخل إطار إجتماعي إنساني، كالمواعدة مثلًا، أو التّحلّق حول مأدبة الطّعام، وثانيًا والأهم ربما في كل ما يرسمه لوبس هو شكل العيون: ضخمة، واسعة، تشعر أنّها ستبتلعك. إن فقدان زوجته بعد صراعها الطّويل مع مرض السّرطان كان المحرّك الأساسي لإضطراباته العقليّة، فقد بدأت أحواله تنقلب شيئًا فشيئًا حتّى عانى من الإكتئاب وصولًا وبعد عناء طويل ليُشخّص بالفصام.
وأخيرًا، في الموسيقى. هنا حقيقةّ، كان للإضطرابات العقليّة الحصّة الأكبر. عمّن سأتكلم؟ عن سيد باريت الشّهير وموسيقى البينك فلويد السّاحرة التي جالت العالم أجمع؟ أم عن كيرت كوباين والخضّة التّي أشعلها في ميدان الموسيقى العالميّة؟ فلنمشي خطوةً تلو الأخرى. بدايةً مع سيد باريت.
سيد باريت لاعب غينار في فرقة الروك أند رول الشّهيرة" بينك فلويد" منذ تأسيسها عام 1966 حتّى عام 1968. كانت هذه الفترة تكفي ليطلق سيد فيها العنان لمخيّلته ناظمًا فيها مجموعة أغاني خلّدها التّاريخ على أنها من اساسات موسيقى الرّوك وخصوصًا ما يعرف بال "Psychedelic rock". لإرتباط المفهوم بموضوع المقال وجب تعريفه. ال"Psychedelic Rock" هو نوع من موسيقى الروك، إشتهر فترة الستينات من القرن العشرين. يرتكز هذا النّوع الموسيقي على محاولة للعمل على الهلوسات التي تبثّها المخدّرات أمام الإنسان فتكون وسائلها المؤثرات الصّوتية، الألحان، وحتّى الكلام إما بهيئة رمزيّة أو حتّى بوضوح ثقيل. من أشهر روّاد هذا النّوع: بينك فلويد، جيفرسون أيربلاين، البيتلز... بالعودة إلى سيد، عمل على جميع مستويات الأغنية من الموسيقى التي دوزنها جيّدًا واستعان بالتكنولوجيا المتوفرة في وقتها لينتج مزيجًا خارقأ، أبرزها مثلًا: Arnold Layne, See Emily Play, Astronomy Domine... أفرط سيد في تعاطي مخدر ال" LSD" ما أدّى إلى تركه الفرقة بعد إزدياد تصرّفاته الغريبة الخطرة أحيانًا.

أما في ما يخصّ بكيرت كوباين فهو حجر الزاوية الذي بنى عليه شباب بأكلمه يأسه وقرفه من العالم أجمع. هو لاعب الغيتار في فرقة "نيرفانا". أصدر ألبومات أشهرها "Nevermind". يبيّن فيه كيرت قرفه وتعبه المضني بأداء مؤثر جدًّا يأسر كل من يستمع إليه. لعب كيرت على وتر الإكتئاب، ليس فقط في الألحان لكن في الكلام أيضًا موضحًا كل ما يجول في رأسه من كوابيس وأفكار. لقد واجه مشاكل زوجيّة دفعته لمحاولة الإنتحار مرات، نجحت للأسف يوم ال25 من نيسان سنة 1995 حين وجد مقتولاً في شقته بعدما أطلق النّار على رأسه. وقد كتب في رسالته الأخيرة: "عشت حياتي بالطّول وبالعرض، وأنا ممتنّ في الحقيقة لأنّي، ومنذ السّابعة من عمري، أكره الناسّ، كل النّاس بلا تمييز. فقط لأنّه من السّهل على النّاس أن يشفقوا على غيرهم، أو لأنني أحزن كثيرًا على الغير وأسامحهم باستمرار، هذا لا يعني أن الوضع سهل."


في النّهاية، صحيح أن الإضطرابات العقلية والنفسية ليست بالأمر السّهل ومن الطّبيعي أنه يجب علاجها بأهميّة الأمراض الجسديّة وليس الهدف الآن الخلاف على طريقة العلاج ونوعه. إنّما التركيز اليوم على الجانب الإنساني للمسألة، الحياة، الفنّ. في النّهاية يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو: "الناس في طبيعتهم يعرفون ماذا يفعلون، أحيانًا يدركون السّبب وراء ذلك، لكن ما يجهلونه حقًّا هو نتيجة أفعالهم.".