أدبُك على كل عيب.. ثورية الجسد في السويداء

أدهم حنا
الجمعة   2020/07/17
من احتجاجات السويداء (انترنت)
لا يُمكن تجاهل الأجساد في سوريا، والتي تظهر في الشاشات فقط، حيث لا يتحقق لها معنى عام، تبادلي حواري، ولا تحضر إيماءاتها وآلامها في اليوميات السورية. إلا أن الجسد السوري يبقى أكثر ظهوراً في تعنته وبقائه وصلابته ومعناه دائماً، متفوقاً على أكثر المعاني التي يُمكن انتاجها معرفياً وسياسياً. بدءاً من الأجساد التي ظهرت للعيان في التظاهرات، وصولاً إلى صور المعاقبين المُقطعين الذين أوصلوا سوريا لقانون قيصر وحصارها.

كانت عودة الجسد إلى الواجهة عبر التظاهرات التي خرجت في السويداء تجاوزاً جريئاً لتاريخ الجسد السوري - في السنوات الخمس الأخيرة - واستخدامه والتوحد فيه. رغم رواج نوعية من الاستخدام الصوري للجسد عبر قنوات النظام الجماهيرية، إلا أن أبناء السويداء قدموا شكلاً مغايراً، كان على شكل الأجساد السورية ووعي الناس بها أن يتغير. من هنا يبدو حراك السويداء ثورياً.

سادت ثقافة سورية، قائمة على الانهمام في الحزن بحسب تعبير سيبنوزا، كلائحة مدرجة من نتائج الاستبداد العسكري، فالفقر والتخلف والاستعباد حققا شكلاً عاماً للسوريين، نجحت فيه آلية دولة مسيطرة في إبقائه والتمركز عليه وإخفائه. فلا تبدو الأجساد في سوريا اليوم سوى ذليلة ومكسورة. الواقع الحقيقي لآلاف الجنود المصابين المنتظرين على أبواب المستشفيات، المواطنين المهانين في طوابير المؤسسات، وخلوّ الأسواق وفزعها من المارة باستثناء أصحاب الأكياس الممتلئة من أصحاب الحال الجيد. وهناك شكل آخر صُنع عنوة، ويلائم الجماهيرية والتجمعات النشطة، كأن يحتفل جمهور سوري لفريق كرة قدم عبر شاشة التلفاز، متماهياً مع أشكال أوروبية بصنع الزينة والمفرقعات. المضحك هو الصيغ التوكيدية المكررة لمعلقي كرة القدم السوريون عن عودة سوريا إلى طبيعتها وذلك وفقاً لاحتفال الجماهير وهيجانها. يكمن الحرص في شخصية رجل الأمن الدعائي، الجالس خلف ميكرفون المباراة، والذي يقاسم أصوات الجماهير بذكر الأسد وأفضاله وحكمته، في كل لحظة تتصاعد فيها أصوات الجمهور ليغطيها. الانهمام بالهيجان والفرح الجزئي هو الجزء الأفضل لذكر الأسد ولظهور مواطنيه.

الطابع الهيجاني الاحتفالي هو الشكل الوحيد الذي يمنح النظام شكلاً مستقراً لإظهار أجساد مواطنيه. في الطابع الفلسفي للجسد، تتم معارضة المثالية الأفلاطونية وما بعدها، والتي تفصل الجسد عن المعنى المتجسد الذي يُمكن خلقه وتحقيقه، وجعله ثانوياً أمام الروح وتابعٍ شبه آلي لها. وفي رحلة أجسادنا، وصلنا القرن العشرين في حلته الوجودية التي أخرجت تفاعل البشر من دائرة الدونية أمام أجسادهم، حيث التمسك بخطورة الجسد ومعناه باتت على محك عالمٍ وحشي يتم فيه الصراع بتشكل الأجساد في الشارع، وفي جعله حياة لا تنفصل عن الفكرة والذات. وعالمٌ آخر مازال يقاوم بإخفاء الجسد واقتنائه وجعله مُتحكماً به من آلات استبدادية تحيك الحركات وتنمطها، ترسم ما يبدو عليه الجسد وما يستطيعه.

يُشبه هذا ما تم في السويداء، حيث يحصل التشكل الجسدي لمجموع البشر كخروجٍ جماعي من الانهمام في الحزن، إلى الانهمام في الحرية، من كونها مصدر سعادة. بعد انقطاع طويل للسورين عن شوارع بلادهم، كان لأبناء السويداء خروجاً مُبهراً ويملك شغفاً ضد أشكالٍ يرسمها النظام مراراً ولا يقتني غيرها. أقله، بدا التحرك فرحاً، رغم مطالبه التي لا تتجاوز أبسط ما يستحقه البشر، نقضاً لجوع واستبداد وظلم.

لكن انهمام النظام في الهيجان ينسحب على جمهوره، هناك شكل آلي غير تمردي في جعل الأجساد آلات تُقاد لتصنع فرحاً مهيناً، يساوي ما يشعر به جمهور في مباراة كرة قدم. ثقافة السياسة المتجسدة للنظام، تُرتسم بفصل الأجساد عن استطاعتها، فإما أن تهم بالحزن وقلقه، وتبدو ذليلة في الشارع وفقيرة ومعدمة وجائعة، من أجل استيهامات مَرَضية، كأن يُقال "هذه هي أجساد المقاومين للمشاريع الصهيونية والعالمية، وضريبة انتماء الناس لجمهور المقاومة"، وإما أن تبدو في حالة "الدبكة"، فالشعار الفولتيري "إسحق كل عيب" يظهر في سوريا: "أدبك على كل عيب". كان رد النظام على أهالي السويداء في دفع جمهوره لثقافة الفرح، ثقافة مخالفة لفرح الحرية ومن المنطلق الجسدي نفسه، في أن تبدو الأجساد محتفلة بمعبودها وسيدها في شوارع البلاد ذاتها أيضاً. في ساحات اللاذقية وطرطوس لا غير، كان على النظام وبطانته أن تفتح ساحة عامة وتأتي بالموسيقى، موسيقى الريف ذاته الذي عُمم في سوريا، ليأتي موالو السلطة للرقص. ومتلازمة الحضور تكفي، مع قليل من الاهتزاز والرقص الفردي. فرغم أن أي تجمع يحققه النظام لأجساد مواليه، لا يظهر معنى جمعياً يُريده، إلا أن تكرار الموسيقى  والأغاني أكثر رداءة، تكفي لتحصيل الآلات البشرية وجمعها. بشرٌ مخلوعون من إرادتهم، لا يخرج لهم صوت أصلاً.

باتت التجمعات التي يهندسها النظام تفقدُ شعور متلقيها حتى، فهُم لا يصرخون، يكتفون بالاهتزاز الآلي، والتناغم الحتمي مع أصوات الطبل، وصرخات مغني الصراخ ما عادت تخترق أجسادهم. حتى المغنين يبدون بلهاء أكثر فأكثر. حسن نصر الله، بشار الأسد، نبيه بري.. هذه مقتطفات صوتية يسمعها المتجمعون بصرخات هيستيرية من فناني الثقافة السياسية للنظام الأسدي. باتت هذه المقتطفات أقل تأثيراً، وبلهاء. شيء من انقشاع الشعوذة وصل إلى الموالين الذين يتم جمعهم بصعوبة. ولم تعد الدبكة سوى المحايثة الصعبة لتشكل البعد السياسي للنظام عبر أجساد مواليه. تأثير الدبكة تقل وطأته. والجدير بالذكر أن حتى الرد السياسي على الحصار الأوروبي الأميركي على سوريا، والذي أثر، بحسب النظام، في تعامله مع وباء كورونا، استُخدمت الدبكة فيه، لكن مع احترام التباعد الاجتماعي، فأُتي بفنان وموسيقي لعزف أغنية أقرب للدبكة على مسامع السورين ومرآهم عبر الشاشة الرسمية. استجابة الموالين لأجواء الدبكة في انحسارٍ ما، هناك حلق مستحيل لكي تكون الدبكة وموسيقاها برنامجاً سياسياً.

السوريون في أسوأ ظروفهم الاقتصادية وأدناها، لم يفهم النظام أن إخفاءهم أفضل من جعلهم دوماً آلات لا تملك بين ذاتها وجسدها وسيطاً أو عقلاً. لم يعد ينفع الطبل، لكن محاولات طويلة للنظام لن تنتهي. وفي كل تفاعيل السياسية لموسيقى النظام، لا يظهر خطيب سياسي واحد. جدّياً، شعار النظام: "أدبك على كل عيب".