كريستوف آنا: أديب المال

روجيه عوطة
الجمعة   2020/02/28
يحاول صناعة أدب للحديث عن المال
مع أن كريستوف آنا قد أصدر كتابه "مال" في العام 2018 (دار أمستردام)، الا أنه حينها لم يلق صدى مثلما هي حاله الآن. ربما، مرد ذلك، أن موضوعه، أي المال في الشغل الثقافي، لم يكن مطروحاً عندها، والسبب هو كون الخراب، الذي خلفه النظام الذي يتأهل وسط الشغل اياه، لم يكن واضحاً لكثيرين، بحيث أنهم كانوا متمسكين بالايمان بهذا النظام، أو أنهم لم يكونوا بعد من المتضررين منه. على أن الموضوع، الذي تناوله آنا، يطرح نفسه بنفسه حالياً، لا بل يبدو أنه محوري للغاية، مشيراً إلى كون الشغل الثقافي، الذي كان تقديمه في ما مضى يدور حول كونه من دون علاقة بحركة المال، قد طعن في هذه العلاقة، وهذا، حتى صارت شبيهة بمحركه.


لا يطرح آنا موضوعه على سبيل معرفة مكان المال في الشغل الثقافي، يعني على هذا النحو: ما محل المال من اعراب الثقافة؟ وبالتالي، يظهر كأنه ينتهك تابو متعلق به، او يخترق صمتاً حوله. إنما، آنا يسأل: كيف يتحرك المال بين شغيلة الثقافة؟ بعبارة أخرى، هو يؤكد علاقة الثقافة بالمال، ويمضي إلى دراسة أثرها على حيوات الشغيلة. "دراسة"؟ ليست كلمة دقيقة لوصف النص، وهذا مع أنه ينطوي عليها، غير أنه أقرب إلى ما يمكن تسميته بالمبحث الأدبي، أو الأدب التحقيقي، نوع من رسم- وهذه عبارة كلاسيكية للكلام عن هذا الادب- سوسيوتخييلي لوقائع العيش اليومي للشغيلة. علماً، أن آنا لا يحبذ وصف كتابه بالسوسيولوجي، ولكن، لا بأس!

هؤلاء هم، فعلياً، رفيقات ورفاق آنا، الذين يحولهم في مبحثه إلى أسماء مقرونة بأرقامٍ، تدل على مداخيلهم الشهرية. على هذا المنوال، من الممكن الوقوع على فردريك 1200 يورو، وستيفاني 1450 يورو، وسارة  450 يورو، وإريك 2500 يورو الخ. وهم يتوزعون على العمل إما في دور  نشر، أو في صناعة الافلام، أو في الغاليرهات، أو في إنتاج الفنون على انواعها. كما أنهم تقريباً يعرفون بعضهم البعض، أو يتعرفون على بعضهم البعض، من خلال جمعهم من قبل الكاتب نفسه، آنا، أو في مناسبات ثقافية محددة، كأمسيات شعرية أو معارض.

يستفهم آنا، الذي يحضر بإسمه في الكتاب، كل واحد منهم عن موقف يرتبط بعلاقته بالمال في عيشه، مستمعا إلى اجوبتهم، التي، فعلياً، تتشابه من ناحية مصاريفهم، وهذا، حتى لو اختلفت مداخيلهم. بالطبع، وعلى عادة آنا، يعني على اسلوبه، يقدم حكاياتهم بطريقة قريبة من الفكاهة، لا سيما حين تبدو غير مألوفة في سير شغيلة الثقافة. على سبيل المثال، يتحدث عن الشاعرة ايفا 1600، التي، وبخدعة بسيطة في عداد الكهرباء، توفر بين 500 و700 يورو سنوياً. أما، مانويل 1300، فهو من المواظبين على السرقة من السوبرماركت، أو من المتاجر على عمومها، إلى درجة انه ذات مرة سرق شاشة كبيرة لحاسوبه.

كل حكايات هؤلاء الشغيلة تبين هشاشة عيشهم المقرون بالمال، مثلما تبين ألاعيب توفيره. وقبل هذا، تبين قلته، بالإضافة إلى كيفيات استحصالهم عليه مقابل عملهم، أو كيفيات فوزهم بشغل من هنا وآخر من هناك. أما الأهم فهو ان حكاياتهم تبين سوء توزيع المال بينهم من جهة، وكيفية توزعهم اجتماعيا على أساسه أيضاً. اذ إن أرقامهم، وحين تقترب من بعضها البعض، يقتربون من بعضهم البعض مكانياً، أو اجتماعياً على وجه الدقة، وحين تتباعد، لا يعودون على ذلك القرب. فيبقى كريستوف 245، وهو الشاعر اللامع كريستوف تاركوز (مات في إثر حادث مؤسف عام 2004)، مكابداً بمفرده من أجل أن يستمر في كتابة قصائده، مرة، يقبض حقوقه من دار نشره، ومرة، من أمسية في مسرح باريسي، وفي احيان كثيرة، لا يحصل ذلك، فيستعين بصحبه.

في الواقع، كتاب آنا لا يبين هشاشة عيش هؤلاء الشغيلة فحسب، إنما، وفي أثناء ذلك، يصنع، أو يحاول صناعة أدب للحديث عن المال، من الممكن تلخيصه هكذا: لا يقع في تسحيره، لا يمضي إلى التخويف منه، يسرد الوقائع المتعلقة به بالبحث عنه في اليومي، وبنقله في بعض مواقفه من هم إلى ما يشبه "المضحكة". إنه أدب "مادي" بإمتياز، يجمع إلى جانب حكاياته قصاصات من الشيكات والفواتير وكل المستندات المتعلقة بتسديده أو قبضه، ليظهرها في جوار القصائد أو النصوص أو الأعمال فنية، فتكون، في بعض المرات، اكثر منها.