عرب"إدفا 2020": الماضي لا يموت.. وغداً ليس أفضل بالضرورة

محمد صبحي
الخميس   2020/12/10
"نرجس ع."
اختتمت الأحد الماضي فعاليات الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية (إدفا). المهرجان الأكبر للأفلام الوثائقية في العالم، شهدت دورته المنقضية عرض 229 فيلماً توزّعت على مسابقاته وبرامجه المتعددة، والممتدة عاماً بعد عام، لمواكبة تطورات إمكانات القول السينمائي والاتجاهات الإعلامية الجديدة. كالعادة، ضمّت عناوين الدورة الأخيرة عروضاً عالمية أولى وتجارب أولى لسينمائيين شباب ومجموعة مختارة من أفضل الإنتاجات الوثائقية لهذا العام. الجديد، هو اضطرار المهرجان إلى عرض أفلامه عبر الإنترنت، بسبب الجائحة وتفادياً لإلغائه بالكامل، مع ابتكار طريقة "مهرجانية" لتلك العروض بحيث تُعرض الأفلام عبر الإنترنت في مواعيد عرض ثابتة وبتذكرة مالية، حتى يتمكن الراغبون في أنحاء العالم من مشاهدتها.

في ما يخص المشارَكات العربية في المهرجان، فالأفلام العربية، إنتاجاً ومواضيعاً، تحتل منذ فترة مكانها الثابث في برمجة المهرجان، غير أنه من الملاحظ في دورة هذا العام اختفاء شبه كامل للأفلام السورية بعدما حظيت باهتمام المهرجان خلال السنوات الخمس الأخيرة. واللافت في دورة هذا العام هو الحضور القوي للانهمام الذاتي والأرشيف الشخصي والعائلي، في تناول موضوعات عامة أو تاريخية، سواء كان ذلك في تتبُّع عسف المحاكم الجعفرية اللبنانية بحق المطلقات، أو في مطابقة مخرج برازيلي لحال بلاده مع الحراك الشعبي في الجزائر. الشخصي حاضر ومهيمن ومنه تنطلق كل الأسئلة، زمنياً ومكانياً، لمحاولة فهم العالم وردم الفجوات أو بناء الجسور، في واقع عربي راكد وكئيب لا يتوقف عن مفاجأتنا.

لبنان.. مظالم وأرشيف ولعب
بعد استكشافها القضية الفلسطينية في فيلمها السابق "ساكن" (2014)، من زاوية العلاقة الاستثنائية بين حياتين جمعهما سرير في مستشفى أردني، تنطلق ساندرا ماضي، في فيلمها الجديد "الجنّة تحت أقدامي" (90 دقيقة، إنتاج لبناني فرنسي)، خلف قصة ثلاث نساء شيعيات لبنانيات، يناضلن للحفاظ على حقّهن في حضانة أولادهن. شاهدت المخرجة صديقتها تكافح طيلة 12 عاماً للحصول على الطلاق من زوجها، الذي استخدم كل ماله وسلطته للحصول على ما يريد، ما دفعها إلى التركيز على المعاناة التي يسببها النظام القانوني في بلدها.

الفيلم دليل إضافي على السجن الجحيمي الذي يمكن أن يتحوّل إليه الزواج في لبنان بفضل نظم قانونية متعسفة وطائفية. في الحكايات الثلاث، تتفجّر مآسٍ وتنفتح فواجع. لينا التي "خَطَف" زوجها طفلها ونقله إلى ألمانيا، فتبعته إلى هناك وهي تقضي أيامها في انتظار قرار المسؤولين الألمان بشأن تصريح إقامتها في البلد، لتعرف ما إذا كان سيُسمح لها بلقاء ولدها البالغ من العمر خمس سنوات والذي صار يخاف منها الآن لأنه بالكاد يراها منذ إبعاده عنها. أما فاطمة، فتسكن مع أهلها في الضاحية الجنوبية لبيروت، وترفض التخلي عن ولدها البالغ من العمر أربع سنوات، بعد تمرّدها على السلطات الدينية في المحكمة الجعفرية، ففضّلت أن تُسجن على أن تمتثل للقانون. وأخيراً زينب، البقاعية التي فقدت ابنها بعد طلاقها ولم تربح أي معركة قانونية في المحاكم لرؤيته، وتعيش أيامها في انتظار أمل يائس. من بعيد، نراقب حياة يستهلكها اليأس والخوف والوحدة. وثيقة مهمة عن العواقب المباشرة لنظام قمعي في بلد لا يتوقف عن الإدهاش.


في مقلب آخر تماماً، يستكمل أكرم زعتري في فيلمه "الهبوط" (60 دقيقة) تنقيباته في الأرشيفي والمُكتشَف لإعادة نظم سردية جديدة تستفيد من كل ما تقع عليه يداه. رمال الصحراء المنجرفة، والأدوات المنزلية المهجورة، والأصوات التجريبية، هي المواد الخام لمشروع فريد يمزج بين فن المناظر الطبيعية والأداء الموسيقي.

استوحى المخرج والمصور، أكرم زعتري، إلهامه، من موقع غريب ومقلق وجده في الشارقة بدولة الإمارات. المنازل المهجورة المبنية في ثمانينيات القرن الماضي، كمشروع إسكان عام  لأبناء قبيلة الكتبي الشارقية، تغمرها الصحراء الآن، بعدما انتقلت الأُسَر العام 1994 إلى مساكن جديدة في المنطقة المجاورة، مخلّفة وراءها بيوتاً قديمة غمرتها الرمال المتحركة ببطء. وسط الأنقاض الصحراوية، يظهر ثلاثة رجال، مثل علماء آثار قادمين من المستقبل، يتقاطع علوقهم مع تركيب جغرافي غريب يتداخل فيه الصوت والرؤية مع الطبيعة والتدخل البشري. في استكشاف صوتي للمكان، يطرقون على الجدران والأنابيب المعدنية، يخشخشون الرمال، يحيلون أدوات المطبخ آلات موسيقية، ينقرون الكابلات مثل الأوتار، يكبّرون أصواتهم عبر بوق منزلي عملاق. يدعو الفيلم المشاهدين إلى تحرير خيالهم، عبر رحلة سردية تستمر انقطاعاتها في رفد الصور بتحولات ومواجهات واككتشافات.


أما هالة الكوش، فتتناول في فيلمها "الصورة المثالية" (31 دقيقة)، الفوارق بين الأجيال والصدمات العاطفية، من بوابة تساؤل بسيط: هل يمكن لحادثٍ عام صادم أن يكون قاتلاً ومعطّلاً لفكرة الأسرة المثالية؟ في سبيلها للإجابة، تبتكر المخرجة الشابة جلسة علاجية لمواجهة والديها بشأن حدث صادم، وتستجوبهم على مدار خمسة أيام. لكن يبدو أن اللحظة التي "غيرت كل شيء" بالنسبة لها، كان تأثيرها أقل بكثير على والديها. تأخذ المحادثة انعطافات غير متوقعة، من الانتقال بين أرشيف عائلي يحفل بصور الأسرة السعيدة، ومطبات الإدراك الناشئ للتباين الحاد في علاقة العائلة بالشان العام والنظرة المسبقة لدى الإبنة عن تلك العلاقة.


المغرب.. نوستالجيا وقمع وكلاب
كان للمغرب نصيب الأسد من المشاركات العربية في الدورة الاخيرة للمهرجان برصيد 6 أفلام، سلّطت الضوء على المشهد السينمائي الوثائقي الراهن للبلد وسينمائييها. أفلام لافتة ومهمة وشخصية مليئة بالتحديات، قاربت موضوعات الهوية في الفن والسينما كما في الحياة العائلية وخبرة الشتات، وقدّمت حساسية عالمي في تناولها إشكاليات الانتماء والعيش.

في فيلمها "زيارة" (99 دقيقة، إنتاج مغربي فرنسي) تركّز المخرجة الفرنسية-المغربية المقيمة في باريس سيمون بيتون على تاريخ وثقافات شمال إفريقيا والشرق الأوسط، عبر تناولها "موضوعاً مهرجانياً" بامتياز: التراث اليهودي في المغرب.

كان عدد السكان اليهود في المغرب أكثر من 300000 نسمة حتى الخمسينيات من القرن الماضي. منذ ذلك الوقت، وحتى بعد حرب حزيران/يونيو 1967 مباشرة، غادر طوفان من المهاجرين إلى دول مثل فرنسا وإسرائيل وأميركا. استقرت عائلة المخرجة في فرنسا. في فيلمها، الذي يأخذ عنوانه أبعاداً مقدسّة، تعود بيتون إلى موطنها وتبحث عن الآثار التي تركها اليهود وراءهم، وهي موجودة بوفرة. تسافر بالسيارة عبر أنحاء المغرب، وتغتنم الفرصة لتضمين لقطات جميلة للمناظر الطبيعية، ثم تتجوَّل في معالم التراث اليهودي في البلدات والقرى. تكتشف المقابر والمعابد والمدارس وبقايا المِلاح (الاسم الشائع للأحياء اليهودية في المغرب)، وهي أماكن غالباً ما يتعهّدها بالرعاية السكان المحليون بمودَّة وإحترام. تتحدث معهم بيتون عن أهمية الحفاظ على التراث، وتفانيهم، وكذلك عن العلاقة بين اليهود والمسلمين. يتساءل أحدهم: كيف سيكون المغرب اليوم لو بقي اليهود؟

طريق آخر ورحلة أخرى تخوضها المخرجة البلجيكية-المغربية كريمة سعيدي في فيلمها "الطريق إلى البيت" (90 دقيقة، إنتاج مغربي بلجيكي قطري فرنسي)، بتتبُّع تاريخ والدتها المسنّة قبل أن تفقد ذاكرتها نهائياً. فقدت عائشة، والدة المخرجة، حسّ الزمان والمكان حين بلغت السبعين، وأمام ضجرها من البقاء في دار رعاية بلجيكية لمسنّين نهش الزهايمر عقولهم، تقرر الرحيل. لم تعد تعرف نفسها، فلا يهم إلى أين الرحيل. مدفوعة ببنوتها ورغبة في ردّ دَين أمها عليها، تقرر المخرجة، عبر الاستعانة بالأرشيف العائلي ونتف حكايات عائشة المبعثرة على لسانها، استرجاع تاريخ والدتها. نبدأ من الشباب في طنجة بالمغرب، ثم الهجرة إلى بلجيكا لتتزوج، وكيف انتقلت في ما بعد لتربية أطفالها كأمّ عزباء. تكشف إجابات عائشة على أسئلة ابنتها العديدة والمتكررة عن مدى كفاحها مع التقاليد، ووضع المرأة، والعيش بين ثقافتين. ثم هناك تلك العلاقة المعقدة بين المرأتين، عائشة وابنتها الصغرى كريمة، ينسجها الفيلم باقتصاد بمزج تاريخ ابنة الجيل الأول من المهاجرين المغربيين إلى بلجيكا التي أفنت حياتها وهي تحاول الهرب من مصيرها المفروض عليها بأن تكون زوجةً خانعة، بتاريخ ابنة الجيل الثاني الطامحة لتجسير زمنين وثقافتين. قصة شجية وعذبة تحملها الذكريات وشظايا الحكايات تمزج الشخصي بالعام في لحظات حب وشاعرية تجسد طبيعة الحياة المحدودة والهشة.


ولم نزل مع رحلات اكتشاف العائلة والذات المهاجرة، هذه المرة تبدأ الرحلة من صورة قديمة تتعثر بها الابنة بين متعلقات والدتها. نتابع "في زاوية أمي" (83 دقيقة)، لأسماء المدير، بحث شابة مغربية عن الحقيقة وكشفها شبكة أكاذيب عن ماضي عائلتها. تدمج أسماء، المخرجة والابنة، تاريخها الخاص مع التاريخ الوطني في تناولها انتفاضة الخبز العام 1981، وتربطها بالراهن المغربي.

عندما تعثر المخرجة على بطاقة بريدية قديمة لقرية جبلية بين متعلقات والدتها، تبدأ النبش. الصورة للزاوية، القرية التي تركتها والدتها وهي طفلة ولم تعد إليها قط. تقرر أسماء الذهاب إلى هذا المكان البعيد، حيث يبدو أن الزمن قد توقف، تشرع في البحث عن ماضي والدتها، وبالتالي ماضيها. تتواصل على المستوى الشخصي مع النساء والفتيات في القرية؛ إحدى الفتيات الصغيرات هي أم العيد. كلما تعرفت عليها وعائلتها بشكل أفضل، أدركت مدى اختلاف حياتها لو بقيت والدتها في القرية ولم تسافر إلى فرنسا. ما يبدأ كرحلة شخصية حميمة بحثاً عن جذور العائلة، يتطور إلى قصة عالمية حول التحرر والهجرة والتوق البشري للانتماء إلى المجتمع.


رحلة إعادة اكتشاف من نوع آخر يقوم بها علي الصافي، في فيلمه "قبل زحف الظلام" (70 دقيقة)، بالعودة إلى المشهد الفني المغربي في سبعينيات القرن الماضي، سنوات الرصاص. أكثر ما يثير الإعجاب في فيلم الصافي هو طريقة استفادته من الأرشيف للكشف عن مزاج وإبداع حقبة مطموسة ومغيَّبة في الذاكرة المغربية، باستناده إلى فيلم مغربي مستقل لمصطفى الدرقاوي صُوَّر العام 1974، يحمل عنواناً دالاً هو "أحداث بدون دلالة"، عن أربعة من صانعي الأفلام الشباب المغاربة ينزلون شوارع الدار البيضاء لاستكشاف الدور الذي يمكن أن تلعبه السينما المغربية الجديدة في المجتمع، ولإنجاز ذلك يسألون الناس سؤالاً بسيطاً: ما نوع السينما التي يحتاجها المغرب؟ يذكّر الفيلم بالثقافة المضادة الناهضة بفضل الحركات الطالبية الماركسية التي رأت في السينما "أداة للتوعية" واكتشاف الذات. مع ذلك، فبعد عرض عام واحد فقط، منعت الحكومة الفيلم من العرض نهائياً. لكن نيغاتيف الفيلم المفقود منذ فترة طويلة، أعيد اكتشافه في إسبانيا وجرى ترميمه مؤخراً.

تعيدك هذه المجموعة المتلألئة من الملصقات وأغلفة المجلات ولقطات الأرشيف وموسيقى الجاز والرسوم المتحركة إلى مشهد فنّي ثري حافل بالكلمات الكبيرة والأحلام الشاهقة، من منظور الفنانين والممثلين أنفسهم. كثير منهم سينتهي به المطاف في السجن أو الاختفاء بلا أثر في سنوات قمع الملك الحسن الثاني. من هذه الناحية، "قبل زحف الظلام" إهداء متأخر لضحايا القمع والرقابة والديكتاتورية، فرصة أخرى، ولو وجيزة، لإحياء هذا اللهب الثوري مرة أخرى بعد اكتشاف خطأ الاعتقاد بأن ما ضاع إلى الأبد لن يعود ثانية.

في "أمهات" (63 دقيقة، إنتاج مغربي فرنسي) تُقارب المخرجة الفرنسية-المغربية مريم بكير قضية مغربية ملحّة: الأمهات العازبات، أو النساء اللواتي يحملن بلا زواج. في المغرب، تتعرض النساء غير المتزوجات اللاتي يحملن لخطر السجن. في كثير من الأحيان لا يتجرأن حتى على إخبار عائلاتهن خوفًا من الإقصاء والرفض. جمعية "أم البنين" في أغادير موجودة لدعمهن، تحت القيادة الملهمة للنسوية محجوبة إدبوش. تأخذ الفتيات والنساء تحت جناحها، وتوفر المأوى والتعليم والمساعدة القانونية. في محاولة لتأمين منزل آمن لهن، تبحث أيضاً عن طرق للأمهات الشابات لإصلاح العلاقات مع ذويهن.

يتابع الفيلم إدبوش وفريقها، والتطورات في حياة هؤلاء النساء الحوامل، وتصوير لحظات من وصولهن إلى الجمعية وحتى ولادة طفلهن، وأحياناً لمّ الشمل مع أسرهن. نتعلم تدريجياً أن نرى مشاكل هؤلاء النساء ومصيرهن، والقوانين المجتمعية التي أوصلتهن لتلك الحال، بما في ذلك معضلات المغرب الحديث، من خلال عيون إدبوش.


آخر الأفلام الستة، فيلم مدهش بتوقيع حليمة وارديري، وهي مخرجة كندية سويسرية مغربية الأصل. الفيلم بعنوان "كلاب" (19 دقيقة، إنتاج كندي)، وجميع أبطاله من الكلاب، ويدور بشكل أساسي عن أزمة الهجرة العالمية يروى من خلال قصص 750 كلباً ضالاً تم إنقاذهم في المغرب. ما بدأ أول الأمر بصورة فيسبوكية تعثّرت بها المخرجة لمجموعة من الكلاب بألوان فراء مختلفة، تطوَّر إلى تجربة عملية لمراقبة ورصد الروتين اليومي للكلاب. عملية تحمل مستويات عدة للقراءة، يمكن في نهايتها استخلاص معاني الانحباس والبقاء على قيد الحياة والانحشار.

في لقطات مصوَّرة من أعلى نعاين مئات الكلاب بفرائها الأبيض والأسود والأصفر والبني داخل جدران الملجأ بجدرانه الطينية الحمراء ورماله البنية المحمّرة، يتدافعون على الأرض المغبرة أو حول صفوف احواض التغذية بألوانها الزرقاء أو يتجولون بلا هدف، ولكنهم في النهاية يتبعون قواعد وديناميكيات القطيع او العشيرة. الصوت البشري الوحيد الذي نسمعه هو صوت مذيع راديو يتحدث عن تدفق اللاجئين حول العالم. في تأمله للحياة اليومية الكئيبة للكلاب الضالة، التي تتأرجح بين أوقات التغذية والانتظار الأبدي، يرسم فيلم وارديري أوجه تشابه اجتماعية-سياسية تحت شمس شمال إفريقيا اللاهبة.

الجزائر.. ماضٍ ينهض وتاريخ يبدأ
الجزائر حضرت بفيلمين حميمين يختلفان في موضوعاتهما والفترة الزمنية محل البحث لكنهما يشتركان في تقاطع الماضي العائلي بالراهن الجزائري واشتباك التاريخ الشخصي بمسار أحداث العام والاجتماعي.

في "جزائرهم" (73 دقيقة، إنتاج فرنسي سويسري جزائري قطري) للفرنسية الجزائرية الفلسطينيّة لينا سويلم، ينطلق الاستكشاف من حادثة طلاق الجدّ والجدةّ لجهة والد المخرجة، عائشة ومبروك سويلم، اللذين يعيشان في مدينة تيير الفرنسيّة، وانفصلا بعد 62 عاماً من زواجهما على أرض الجزائر المستعمرة في حينه وانتقلا بعدها مباشرة إلى فرنسا بحثاً عن العمل لإعالة الأهل في الجزائر. كان هدفهم هو العودة إلى الجزائر، لكن "لم يقل أحد أنه يتعين علينا المغادرة"، على حد قول مبروك. في حياتهما معاً، عايشا واقع الهجرة المليئ بالفوضى والظّروف غير المتوقّعة. بعد الانفصال، انتقل كلّ منهما للعيش في منزلين منفردين، في بنايتين تفصل بينهما عشرات الأمتار، وما زالت الجدّة تحضّر الطعام لطليقها كل يوم. الطّلاق وتبعاته المثيرة للتساؤل، منح الفرصة للحفيدة لسؤالهما عن رحلة هجرتهما الطّويلة وعن صمتهما الدائم. تتحرّى وراء أسباب انفصالهما، وفي الخلفيّة تلوح ذاكرة جماعيّة وشخصيّة رُكنت لعقود.

عبر مقاربته موضوعات الانفصال والنفي والصدمات الصامتة، يقدّم الفيلم بورتريهاً عائلياً جذّاباً ودافئاً بظلال شخصية على معنى الانتماء والوطن لدى مجتمع المهاجرين العرب، من دون الاقتصار عليهم، بل يتردد صداها على الجماهير عالمياً. تسلط هذه القصة العائلية الحميمة الضوء الشخصي على تأثير الاستعمار الفرنسي، فضلاً عن تداعيات الهجرة والنزوح، والاعتزاز بكونك جزائرياً، والشوق للعائلة والقرية في الوطن، وهو ما يكاد لا يعرفونه في الواقع. الجدير بالذكر، أن "جزائرهم" فاز بجائزة "النجمة الذهبية " لأفضل فيلم وثائقي عربي في مهرجان الجونة السينمائي.


الفيلم الثاني هو "نرجس ع." (82 دقيقة، إنتاج جزائري برازيلي ألماني فرنسي قطري ) للمخرج البرازيلي الجزائري المقيم في برلين كريم عينوز، ويعود فيه إلى الحراك الشعبي الجزائري السلمي في عام 2019. لم يكن في نية عينوز إنجاز الفيلم، لكن الصدفة رتّبت موعد زيارته الأولى لاكتشاف بلد أبيه الجزائري في خضم بحثه لإنجاز فيلم عن جذور أبيه، مع انطلاقة الثورة ضد بوتفليقة. لضيق الوقت ولتفادي المضايقات الأمنية، اختار التصوير ليوم واحد (اليوم العالمي للمرأة) وبهاتف نقّال يوميات ناشطة جزائرية عرفّها به بعض الأصدقاء الجزائريين وأعطت الفيلم عنوانه. نرجس، فتاة حالمة وغاضبة، جرح مفتوح في أخلاق أمة مضطربة، متحدرة من عائلة كانت دائماً في الطليعة للمطالبة بحياة أفضل للجزائر الحديثة. تعبّر نرجس عن إحباط الشباب بشأن مستقبلهم اليائس وخيبة الأمل التي أصابت الكثيرين منذ حرب الاستقلال الجزائرية (1954-1962). تبدو روحها القتالية مثالاً لجيل جديد يزهر في الجزائر يتوق إلى الحرية والعيش بكرامة في دولة العدالة، ومثالاً كذلك يحفّز به المخرج مواطني بلده الذي يعاني انقساماً سياسياً حاداً ورئيساً يمينياً متوحشاً بمثابة النسخة البرازيلية من دونالد ترامب. يرى عينوز في نرجس نسخة معاصرة من ثوار الستينيات، أجداد وآباب شباب اليوم، الذين ناضلوا من اجل استقلال بلادهم وامتلاك قرارهم. تلتصق كاميرته بحركات بطلته، يصوّرها بشغف متعاطِف ومتورِّط. والنتيجة، تسجيل مذهل للاحتجاجات الجماهيرية، يجعلنا نشعر كما لو كنا هناك بالفعل، في أعماقها.