حقيبة سارة

رشا الأطرش
الثلاثاء   2020/10/20

لماذا تتمتع "دعابة" مصممة الأزياء، سارة بيضون، بوقع السماجة، بل الإهانة للبنانيين ومصابهم الاقتصادي والسياسي؟ لماذا وهي المصممة التي لا تنفكّ تخبرنا بأنها "تشغّل" أكثر من 200 امرأة لبنانية معوزة، وقامت بمبادرة تشغيل السجينات، وتروّج لـ"بيروت ما بتموت" في تصاميمها لحقائب اليد النسائية منذ سنوات، وإن بلغ ثمن الحقيبة الواحدة 300 دولار أو أكثر؟

"تُمازح" صاحبة Sarah’s Bag مواطنيها قائلة في منشور رافق صورة للإعلان عن أحدث تصاميمها: "الأمور تزداد تعقيداً هنا.. مجموعة العلاج بالمفرّق متوافرة". وحقيبة اليد التي تعلن عنها، تحاكي علبة الدواء المسكّن "بانادول" (مع تلاعب بالأحرف حرصاً ربما على حقوق العلامة التجارية للدواء)، وقد كُتب على الحقيبة "لأن الحياة حفلة!"، فيما خلفية الصورة، رفوف أدوية في صيدلية. والمزحة عملياً تقول: طالما أن الكثير من الأدوية بات مفقوداً في لبنان، فلنسكّن آلامنا ونتعالج بالتسوّق، كي نحيي حفلة الحياة الدائمة... وكأن اللبنانيين يمتنعون عن المشاركة في هذه "الحفلة" بسبب مزاج معكّر في يوم ماطر، وكأنهم يعانون كآبة مترفة في ظل وفرة مملّة واستقرار بليد، ولا ينقصهم إلا إنفاق بضع مئات من الدولارات لاستعادة الفرح الذي بدوره يمحو الأوجاع، لأن "الشوبنغ" وصفة ناجحة كل مرة لمداواة إحباطات الدلّوعين.

السقطة الواضحة هنا تتمثل في ما اعتبره كثر متاجرة بآلام الناس، بالمعنى الحرفي والاجتماعي، وهم الذين يعانون ندرة الأدوية وارتفاع سعرها، لا سيما بعد رفع الدعم. بالإضافة إلى محاولة السخرية من هذا الوضع الكارثي غير المسبوق لبنانياً، بل و"تسويق" المأساة كسلعة كَمالية باهظة الثمن يفترض أنها "موقف" من الوجع السائد. وبذلك، لا تختلف حقيبة سارة (ونجدها بتصميم أدوية الاكتئاب والمهدئات أيضاً!)، عن فستان رابعة الزيات التي التُقطت صورها وهي ترتديه وخلفها ركام الأشرفية إثر انفجار مرفأ بيروت، وردّت على منتقديها بأنهم حاقدون. ومعهما عرض الأزياء من بطولة "عروس الثورة" الذي عزم المصمم روبير أبي نادر على إقامته في وسط بيروت، ثم أُلغي تحت ضغط الشجب في كانون الأول 2019، أي بعد شهرين فقط على انطلاقة انتفاضة ضد الطبقة اللبنانية الحاكمة احتجاجاً على الأزمة الإفلاسية وآثارها في شعب بات أكثر من نصفه يرزح تحت خط الفقر.

لا يهم لمَن تعود إيرادات المبيعات، سواء للثوار والعائلات المحتاجة (أبي نادر)، أو المتضررين من الانفجار (الزيات)، وحتى لو تغاضينا عن السؤال الأخلاقي والعملي: من سيشتري؟... فالعِبرة المستفزة تكمن أولاً في الافتقار للذوق والحساسية، في لحظات الطعن بالجوع والبطالة والخسائر، وبسِلَع "فضائية" غالية. وثانياً، في الشعار/الموقف الذي، في أحسن الأحوال وأصفى النوايا المفترضة، لا يتجاوز "الحب". حب بيروت والفقراء، حب مجاني سياسياً وثقافياً، بلا تبعات ولا تموضع. لا يحمّل المسؤولية لأحد، ولا يشير بالإصبع إلى أسباب المشكلة، ولا يتورط في "انحياز" سوى الانحياز إلى المنكوبين كقيمة مجرّدة منفصلة عن سياق عام فاسد ومجرم، وكأنهم، هكذا، نُكبوا من تلقائهم. طبعاً، فأي انحياز آخر مُكلِف، قد يؤدي إلى خسارة زبائن الطبقة المخملية والسياسية وربما يعيق المبيعات خارج لبنان أيضاً، فلا داعي له. وفي المقابل، هناك داعٍ، وداعٍ كبير، للغضب إزاء كل هذا التسخيف والرقص الدعائي فوق الجراح التي ثمة من تسببوا بها وهم معروفون. 

والحال إن فُلك الأزياء والموضة، حول العالم، لم يكن يوماً بمنأى عن السياسة، رغم تمحوره ظاهرياً حول قيم الرفاه والاستهلاك والمتع المنقّاة من المعضلات: من عامّة "sans culottes" الذين صاروا وقود الثورة الفرنسية، وصولاً إلى شعارات "حياة السود مهمة" و"لا أستطيع التنفس" و"لهم أسماء" على فساتين وقمصان لتخليد المواطنين الأفارقة الأميركيين العزّل الذين قتلهم رجال شرطة بِيض، مروراً بحملة "مي تو" والفساتين الاحتجاجية السوداء في حفلات جوائز الأوسكار، من دون أن ننسى حملات من قبيل Pay Up لحماية عمال مصانع الأزياء والذين وجدوا أنفسهم بلا مورد بأثر من انكماش طلبيات العلامات التجارية الكبرى بسبب جائحة كورونا، وحملات صناعة الألبسة القابلة لإعادة التدوير كموقف سياسي-بيئي، وقبّعات Pussy Hats الزهرية التي شكّلت العلامة الفارقة للمسيرة النسائية المليونية في اليوم الأول لتسلّم دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة... المشترك في كل هذه "التحركات"، ليست السياسة وحدها، ولا مناصرة قضية، بل عدم التردد في الإدانة أيضاً، إضافة إلى إسباغ سِمتي العادية والتداوُل على مفاهيم كانت تُعتبر راديكالية. وحتى أنجح التعبيرات السياسية عبر الموضة، تعرضت لنقد ومُساءلة على أساس أنها تشتمل على خطر تحويل السياسة نفسها إلى موضة، وطُرح السؤال: ماذا يحدث حينما تصبح قضية ما "موضة قديمة"؟ فيما الكلام في بعض أوساط الفاشن اللبنانية ما زال قوامه "ما خلّونا" و"كنت أمزح!".