في تقريظ التكسير وفلسفته

روجيه عوطة
الجمعة   2020/01/24
مواجهات وتكسير مصارف في شارع الحمراء(عباس سلمان)
في حين أن النظام في لبنان يستقدم من فرنسا أدوات قمعه للخارجين منه، يصير من الضروري استقدام المضاد لها من المصدر نفسه. ففي العام 2005، وعلى إثر حوادث الضواحي، أخذ شغيل الفلسفة، سيرج رور، على عاتقه، النظر في الممارسة التي واظبت الشرطة، وبالأدوات إياها طبعاً، على منعه ووقفه، أي التكسير. حينها، كان يدرِّس في إحدى الثانويات، وقد لاحظ أن المتظاهرين على مقربة طبقية وعمرية من طلابه، وبالتوازي مع ذلك، كان يسمع صحبه من اليمين، ومن يساره، ينتقدون التكسير الذي يمارسه هؤلاء في الشوارع والطرق.


فعلى اليمين، صحب يرددون، وعلى طريقة نيكولا ساركوزي آنذاك، أن لا داعي لتفهم ما يفعله "المكسرون"، لأن السعي إلى التفهم هو سعي إلى المعذرة. وعلى يسار هذا اليمين، صحب يكررون أنهم يتفهمونهم طبعاً، لكنهم لا يؤيدونهم ولا يصفحون البتة. وفي الجهتين، أو في الجهة ذاتها، الحجتان الأساسيتان أنهم يعتدون على الأملاك الخاصة والعامة، أو أن تكسيرهم لا يفيد بشيء، وبالتالي، لا بد من الإقلاع عنه.

لاحظ رور أنه، وبالإستناد إلى هاتين الحجّتين، يحاول اليمين ويساره أن يقدم الشبيبة كأنهم يكسرون بالإنطلاق من "حرية إرادتهم"، ما يَسمح له، وقبله لدولته، بتجريمهم المباشر. على هذا النحو، عمد رور في الكتاب الذي اصدره بعنون "تقريظ المُكسّر" (دار ميشالون)، إلى إطاحة المنطلق هذا، مقابلاً إياه بالحتمية، التي شرع في إبانتها، عبر الاستعانة باسبينوزا. ذلك، أنه، وفي منظوره، لا يمكن الحديث عن "حرية الإرادة" في وضع مكسري الضواحي، بل عن الحرية الضرورية لهم، أو الضرورة المحررة لهم، إذ تحضهم على تحقيقها بلا حصرها في خير وشر. التكسير هو ذهاب إلى هذا التحقيق، الذي من الممكن، في هذا السياق، تسميته الإحداث، أي، وبمعنى ما، الخروج من حال بعينه، بلا أن يكون ثمة إمكان سواه.

التكسير ممارسة لهذا الإحداث، لهذا الإمكان، ومعهما، للإقتدار في حين تفلته من القبض عليه، من حبسه، أو بالأحرى من خفضه: إفلات للقدرة لكي تجتاح كل ما يعيقها، كل ما تجد أنه كان مشاركاً في حظرها. فـ"الأملاك الخاصة والعامة" هي عوائق وحواجز ترتفع أمامها، أو هي وسائل لإخضاعها. في النتيجة، تكسيرها هو تخلص من أشياء موجهة ضد هذه القدرة، أشياء تعتدي عليها، لا سيما أنها استمرارية لجسد كابحها، أكان السلطة، أو طبقتها، أو نظامها.

لا يستعين رور باسبينوزا وحده كي يقرظ التكسير، بل إنه يرتكز على نيتشه أيضاً، على تلك العبارة التي كتبها في رسالة من رسائله حول الدخول في "السياسة الكبرى"، الدخول في "أكبر سياسة"، التي "ستكسر التاريخ" إلى قسمين. طبعاً، لا يمكن الدراية بهذه السياسة من دون ربطها بما ذكره نيتشه في العبارة ذاتها، أي الحدث، بحيث أنها سياسته، ولأنها كذلك، يستقر أثرها الأوليّ على كونه الكسر. فالسياسة، بما هي إحداث، بما هي خوض للحدث، لا يمكن سوى أن تكسر التاريخ، يعني، وببساطة، أن تجعله يسير مرة أخرى. إنها سياسة الحدث في مواجهة سياسة النظام، التكسير في مواجهة التجميد، مذهب الحياة في مواجهة معتقل التأبيد، إثبات الموت في مواجهة العيش بإنكاره. فلا يمكن لأي حدث أن يقع من دون أن يترافق مع التكسير، الذي يصير، هنا، بمثابة تدبيره، بمثابة تسييسه، وهذا، حتى لو لم يكن مرئياً. فحتى إن لم يعمد ممارسوه إلى إتلاف "الأملاك الخاصة والعامة"، بل اكتفوا بالسير، فهم، بهذا أيضاً يكسرون، أو يهيئون المجال للتكسير، لتجسيد تكسيرهم، ولإتمامه.

"للصبر حدوده، كما أن للعنف شرعيته"، يقول رور. وهذه "الشرعية"، وعدا عن كونها مستمَدة في الأصل من أوضاع المكسرين، أي نفيهم وإقصائهم، أو إبطال حيواتهم على العموم، فهي، وعطفاً على ذلك، مستمدة من قانون الحدث نفسه. ممارستهم للتكسير؟ هو تحرير قدراتهم كواقعة، كسياسة تقطع التاريخ: تكتبه أينما خلفت وراءها حطاماً.