بدرخان علي: الطيّب تيزيني الذي جرحته الدولة الأمنية(*)

المدن - ثقافة
الأحد   2019/05/19
كأقراني من جيل الشباب والذين عاشوا أجواء "ربيع دمشق " بعد تسلم بشار الأسد السلطة من أبيه الراحل.. وأجواء التفاؤل التي خيّمت على المهتمين بالشأن العام بعد العام 2000. أعجبت بالطيب تيزيني، المفكر السوري المعروف وأستاذ الفلسفة الشهير سوريا وعربياً دون أن أكون مطلعاً على نتاجه الفكري... سمعنا عن مناظرته الشهيرة مع الشيخ رمضان البوطي عن النص الديني...

قرأنا له في الجرائد الرسمية نقداً واضحاً لاستراتيجية السلطة في "إفساد من لم يُفسَد بعد" ومخاطر "الدولة الأمنية" التي كتب عنها كثيراً... سوف أنتهز فرصة قدومه إلى جامعة حلب لإلقاء محاضرات جامعية في كلية الفلسفة (وأنا مع أصدقاء آخرين من خارج كلية الآداب.كنا نحضر دروسه). والتي كانت بمثابة نقاش مفتوح وتحريض وتحفيز الطلبة على التفكير معه وإثارة الأذهان، وبكل تواضع مع الطلبة... وبعد انتهاء المحاضرة نحاصره بالقضايا الفكرية والسياسية... ولم يكن يمل من النقاش. ويدعو دوما إلى المزيد من الحوار العقلاني الهادف وغير المشروط... وقد كان متواضعاً بحق.

كتب كثيراً عن الدولة الأمنية، في وقت غير سهل، وعن الفساد والإفساد.

كان الرجل قومياً عروبياً يسارياً، وكان لفترة أو بقي عضواً في حزب البعث ويلقي محاضرات فكرية لأعضاء الحزب وأظنه كان مقتنعاً بأفكار حزب البعث مع إضافة جرعة يسارية إليها. لكنه لم يكن مطبلاً للسلطة أو نديماً لرجال المخابرات.

أذكر أيضاً أنه حذر في ملتقى علني في مدينة حلب عن مخاطر استمرار الوضع على ما هو عليه من فساد واستبداد أمني. ومن صراع خطير(طبقي أو اجتماعي) قريب، و" مُلوّث طائفياً" ما لم تبادر السلطة إلى فتح المجال المغلق والحلقة المغلقة والانفتاح والتغيير التدريجي. (أذكر أنه نُشر تقرير عن هذا الملتقى في جريدة حزب الوحدة (لحزب الوحدة الديمقراطي الكردي (يكيتي)، من الجيد أن يعاد نشرها اليوم، من الأرشيف). وعبارته هذه بقيت عالقة في ذهني حتى الآن.

في حلب أيضاً، نظم شباب أكراد لقاء خاصاً في منزل أحد الأصدقاء (الأصدقاء.. د مسلم طلاس وبكر صدقي وعبدالقادر علي وصبحي طالاس وآخرون يذكرون هذا اللقاء). وكان هناك حديث مطول عن الشأن العام بما فيه القضية الكردية... كان الرجل مازال يراهن على أن يقوم بشار الأسد بشيء ما لإنقاذ البلد من مستقبل خطير.. وحين سألته عن إمكانية أي إصلاح في ظل هذا النظام الشمولي. قال إن "النظام الشمولي يبقى فيه تشققات. ولا بد من استغلالها والعمل عليها" وكان متعاطفاً، وهو القومي العروبي، مع قضية الأكراد المحرومين من الجنسية والحقوق الثقافية للكرد في سوريا.

وبنفس الوقت كان الطيب تيزيني يحافظ على مسافة من تنظيمات المعارضة، ولم ينضم إلى تجمعات المثقفين المعارضة أو أي حزب معارض، وكان حذراً في هذا المجال...

مع انطلاق شرارة الاحتجاجات في سوريا، شارك في اعتصام صغير مع نخبة من المثقفين والمهتمين بالشان العام.. أمام مبنى وزارة الداخلية في دمشق، حيث قامت قوات النظام بتفريق المظاهرة واعتقال المشاركين، وقد تعرض الدكتور تيزيني إلى ضرب مبرح وجرح آنذاك... من قبل بلطيجة النظام وشبيحته.

قدم مداخلة جريئة ومعبرة في اللقاء التشاوري للحوار الوطني في دمشق الذي عقد في (10تموز/يوليو2011) بعد فترة قصيرة من اندلاع الاحتجاجات بأشراف فاروق الشرع وزير الخارجية، دعا فيها إلى "تحريم الرصاص"، موضحاً ان "هناك مقومات كان يجب ان يبدأ بها الاجتماع وحتى الآن يلعلع الرصاص في حمص وحماة... كنت اتمنى ان يتوقف هذا اولاً، كان هذا ضرورياً". وطالب بـ"عملية تفكيك الدولة الامنية". وأضاف: "كان يجب اخراج السجناء الذين بقوا سنوات في السجن وهم بالآلاف. كان هذا اجمل هدية للشعب والمؤتمر". كما أشار إلى أن أهمية جلسة الحوار هذه لا تكمن إلا في تأسيس مشروع ديمقراطي مدني سوري، معتبراً أن جلسة الحوار، من دون ذلك، لا تمثل سوى محاولة من النظام "للاستمرار في الهيمنة على السلطة".

سيشهد الطيب تيزيني تدمير مدينته حمص التي أحبّها، كما سورياه التي أحبها ونبه السلطة الديكتاتورية المستولية والنظام الدموي مراراً وتكراراً إلى خطورة الوضع قبل اندلاع الأزمة الوطنية الكبرى بسنوات...

مات في مدينته حمص التي لم يغادرها. ولم يكن في جنازته سوى بضع مواطنين... تاركاً خلفه سوريا مدمرة وملوثة طائفياً... ومن حسن حظه ان إعلام النظام يتجاهل خبر وفاته حتى الآن... وأن أحد سفهاء الشبيحة الكبار وصفه اليوم بانه "كان عاقاً بوطنه وبحزب البعث الذي كان منتمياً إليه".

برحيله اليوم تفقد سوريا أحد المفكرين الكبار سورياً وعربياً ووطنياً نزيهاً...
 
(*) مدونة نشرها الكاتب بدرخان علي في صفحته الفايسبوكية، في وداع المفكر السوري طيب تيزيني