حين ما عاد لحربنا سوق

روجيه عوطة
السبت   2019/04/13
زمن المتاريس
ما عاد موضوع حرب لبنان، التي امتدت عشرين عاماً، يغري السوق الثقافي في العالم. فبعدما كان بمثابة حدث مهم خلال التسعينات حتى العقد الأول من الألفية الثالثة، تراجع وصار ثانوياً، وها هو الآن في طريقه إلى الاضمحلال.

الفنانون اللبنانيون، والمسرحيون وصانعو الأفلام والروائيون، وبإطلالتهم من هويتهم المحلية على ذلك السوق، صاروا يحتاجون "خبرية" أخرى لبيعها غير تلك الحرب. وبابتذال، وقلة خيال، وفورية، يختارون "داعش" واللجوء، ويشاركون في جعل كل مذبحة يرتكبها الاستبداد، أكان في سوريا أو في غيرها، مجرد مسألة جاهزة للاستهلاك على أنواعه، اي جاهزة لطمسها.

بالتالي، وضع الفنانون اللبنانيون حربهم الأهلية جانباً، وكذلك ما سُمّي نقدها، أو ما رُوّج له طوال سنوات بأنه "حفر فيها"، وراحوا يفتشون عن أحداث أخرى ليضعوا أيديهم عليها، ساعين إلى جعل أنفسهم وكلاءها. الأمر الذي لا يتوقف عن إدخالهم في معارك سخيفة ومكتومة مع أصحابها الفعليين، إثر التنافس معهم.

لكن بعيداً من هذا التهافت، ماذا يحصل لخبرية، وهي هنا الحرب، حين لا يعود يشتريها أحد؟ الإجابة السريعة، وبالاستناد إلى الاقتصاد الثقافي: أنها تكسد، وتصير استعادتها من حين إلى آخر مجرد تلف لها. فحين قرر زياد دويري استئناف أفلمتها، في "قضية رقم 23"، بدت هزلية للغاية، لأنها ببساطة، لم تكن هي المُمَثلة، بل تمثيلها، الذي ربما استدل المخرج عليه في فيلمه الشهير عنها، "بيروت الغربية". وبالتالي، كانت معادلة الفيلم هي التالية: تمثيل لتمثيل الحرب.



وقد يكون الفيلم الأكثر تعبيراً عن تلف الحرب هو "نار من نار" لجورج الهاشم، وهو فيلم رحباني معاصر، يعتمد طريقة زياد في مسرحيته "شي فاشل"، ليستوي على كونه فيلماً عن فيلم عنها. فالأول، ولأنه لا يدري ماذا يقول عن الحرب، يشير إلى كليشيهاتها في الثاني، وفي أثناء ذلك، يتبنّاها. فـ"نار من نار" هو فيلم إعادة جمع الحرب بعد تفتتها، الحفاظ عليها بعد تكشف تنميطها، بعدما أعلنت انها شريط وقد احترق. لهذا، ينطوي فيلم الهاشم، وأسوة بالكثير من الأعمال، على رفضه الإقرار بذلك: موضوع الحرب ليس ميتاً، موضوع الحرب متواصل.

ثمة تعلق بموضوع الحرب بعد كساده وتلفه، وهذا تماماً ما يشير اليه وقع أعمال الفنانة ندى صحناوي في "غاليري تانيت". إذ إن عرضها، في هذا السياق، إصرار على كون ذلك الموضوع لا يزال مثيراً، حتى لو سُحب من الماضي، ورُميَ في الحاضر، ليكون بلا مستقبل. وبالإصرار عليه هكذا، لا يعود له زمن خاص به، وهذا أيضاً جزء من تلفه، بحيث يصير موزعاً على لحظات راهنة، لحظات الشعور بعدم توافر حدث غيره، وفي الوقت نفسه، عدم رواجه. لحظات الشعور بأن كل تداوله السابق لم يضمن له مطرحاً في ذاكرة السوق، الذي، وفي حال رجع اليه، فلكي ينساه. بهذا المعنى، قد يكون السوق صحياً أكثر من تجّاره، يعطيهم فرصة للتجدد، لكنهم لا يقبلون!

الجميع يريد موضوع الحرب، الجميع لا يريد إعلان الحداد عليه. ففي حسبانهم، عليه أن يبقى كما هو، وألا يتحول إلى "أنتيكا" أو "vintage" حتى. المشكلة هنا أن موضوع الحرب، تناوله من "ملحق النهار" إلى "بيت بيروت"، كان سبيلاً إلى محو الحرب نفسها الى جعلها، وعبر الإعلام ومشتقاته، مسألة جمالية خالصة. من هنا، يصير تفسير حسرة فؤاد شرف الدين الدائمة يسيراً. ذلك أنه أول من شرع في جعل الحرب موضوعاً، والأهم، أنه فعل ذلك مباشرة، بالتوازي مع اندلاعها، مدركاً أن الأمر لا يتطلب جهداً كبيراً. كان شرف الدين سباقاً في تسجيل حفلة السوق المقبلة، حفلة موضوع الحرب. لكن هذه الحفلة، وما إن رست مع رسوّ السِّلم، حتى أقلعت من دونه. ورغم ذلك، سبق كل المحتفلين إلى التعلق بالموضوع إياه، فها هم اليوم يقفون مثلما وقف حين تركه السوق خلفه، وذهب.