"بغداد سنترال".. رواية بوليسية عن قصيدة ناقصة

أحمد ناجي
الأربعاء   2019/02/20
اختار إليوت كولا عراقياً لبطولة روايته، وليس أميركياً.. وليس أي عراقي، بل ضابط شرطة سابق
طوال ربع القرن الأخير، غرق الأدب العراقي في الحرب، من الرواية إلى القصة القصيرة إلى الشعر، يطفح الأدب العراقي بالعنف، والقنابل المفخخة والجثث والدم المنساب من بين أوراق الكتب العراقية. تتداعى الشخصيات في الأدب العراقي، وتفقد إيمانها بالحب والانسانية، بل وتتعرض فكرة الوطن الواحد للتفكيك والتشريح باستمرار. في المقابل، تظهر الحرب العراقية في الأدب الأميركي كعالم من الإثارة والتشويق. هي غالباً روايات تقدم الجانب الآخر من الحرب، حيث تدور داخل دهاليز السلطة والجيش الأميركي، عن العميل او الضابط الشريف الذي يحاول أداء وظيفته لكنه يكتشف الفساد فيحاربه داخل مؤسسة السلطة ليصنع من جيش الاحتلال جيشاً أقوى وأشرف.

هناك بالطبع استثناءات قليلة تنحو منحى شاعرياً، مثل رواية "الطيور الصفراء" لكيفين بورز، عن علاقة بين جنديين اميركيين، وكيف يتحول الشاب الأميركي الطيب إلى جندي قادر على القتل، وكاتب الرواية هو جندي سابق شارك في حرب العراق ثم عاد إلى أميركا ليصبح كاتباً وشاعراً.

المسافة الواسعة بين أدب الحرب العراقي، وأدب الحرب الأميركي، تتضح أيضاً في كيفية عكس الأدب صورة الآخر. ففي الأدب الأميركي، يظهر الآخر العراقي كشبح، والجندي القادم من الريف الأميركي لا يمكنه أن يميز، هل هو عدو أم صديق؟ وفي الأدب العراقي، الأميركي هو سلاح وآلة قتل حمقاء، لا يتفهم تعقيدات المشهد العراقي ويتصرف بعشوائية أو غباء أحياناً.

لكن رواية "بغداد سنترال" لأليوت كولا، تأتي في المنتصف بين العالمين، معالجة أدبية فريدة من نوعها للحرب العراقية - الأميركية، وقد حولتها "القناة الرابعة" البريطانية مسلسلاً تلفزيونياً.


يقف أليوت كولا نفسه بين العالمين. فهو الأميركي الذي درس اللغة العربية وترجم عشرات الأعمال من العربية إلى الانكليزية، وهو أستاذ الأدب العربي في جامعة جورج تاون، وحينما قرر كتابة روايته الأولى، اختار أن تكون بوليسية حسب توصيفه. كما اختار أيضاً أن يكون بطل الرواية من النسيج العراقي وليس أميركياً، وليس أي عراقي، بل ضابط شرطة سابق.

محسن خفاجي هو بطل رواية كولا، ضابط شرطة يتصف بكل الصفات الجديرة ببطل رواية بوليسية مهزوم. بعد دخول القوات الأميركية، تم حل حزب البعث والجيش والشرطة، وبالتالي لا يجد محسن ما يفعله سوى الجلوس في المقهى صباحاً، وفي المساء يخرج زجاجة الويسكي ويختار كتاب شعر يقضي معه سهرته، بينما ابنته المريضة تسعل في الغرفة المجاورة.

يتلذذ خفاجي بمضغ اليأس والإحباط، فقد خسر زوجته وحبيبته في سنوات الحصار بسبب نقص الأدوية في العراق، والآن بعد دخول الأميركيين خسر وظيفته كضابط شرطة اعتاد العمل في الأرشيف. يشعر باليأس والإحباط، بينما يشاهد الحالة الصحية لابنته تتدهور ولا يجد ما يفعله.

يستيقظ خفاجي ذات يوم على أزيز الرصاص، يُقتحم منزله، ويفيق ليجد نفسه في زنزانة محبوساً مع فئات متنوعة من الشباب العربي، من جنسيات مختلفة، كلهم أتوا للانضمام للمقاومة في العراق، فانتهى بهم الحال في هذا السجن الأميركي الغامض.

يخضع خفاجي للتحقيق والتعذيب، ثم يستدعيه ضابط أميركي ويخبره أنهم فحصوا ملفه وتبين لهم أنه لم يكن عضوا فعالاً في الحزب، والعراق الجديد يحتاج لمهارته الشرطية، ويعرض عليه العمل في قوات الشرطة التي يجري تشكيلها تحت سلطة الاحتلال. يرفض محسن في البداية، لكن صفعة على الوجه تجعله يدرك أن الرفض غير مقبول. وفي المقابل، إذا قَبِل، فسيتكفلون بعلاج ابنته.

تأخذنا رواية كولا إلى منطقة رمادية لم نرها من قبل، هؤلاء الذين أجبرتهم الظروف على العمل للمحتل، فتحولوا أهدافاً لعمليات المقاومة.

تتكشف خيوط الحبكة البوليسية، حينما يكلفه مديره الأميركي بأول مهامه. يعطيه صورة فتاة جميلة ويطلب منه البحث عنها. الفتاة، واحدة من الفتيات اللواتي يعملن مع زبيدة، أستاذة الجامعة العراقية، صاحبة شبكة العلاقات الغامضة. يظن خفاجي إن زبيدة تورد الشباب والفتيات للعمل كمترجمين مع الجيش الأميركي، وهؤلاء المترجمون يتلقون التهديدات من جماعات المقاومة ويتعرضون للاغتيال والاختطاف. لكن، بينما نتقدم في الرواية وتنحل خيوط اللغز، تنقلب الصور. فالدكتورة زبيدة تقود شبكة دعارة تقدم خدماتها للضباط الأميركيين والشخصيات النافذة. وحينما يواجهها خفاجي، تدافع عن نفسها بفلسفة بخاصة قوامها خطاب نسوي يرفض وضع الضحية. تقول له زبيدة إن النساء هن أول ضحايا الحرب، إذا لم أفعل ما أفعله، فمصير هؤلاء الفتيات الجامعيات اللواتي علمتهن، سيكون الدهس تحت عجلات الحرب، لكننا معاً بنينا شبكة نافذة، تغلغلت في بنية السلطة التي يجري تشكيلها في البلاد. وفرت لتلك الفتيات الحماية، والمال الذي مكنهن من الادخار ومساعدة عائلاتهن في زمن الحرب، بل وبالنسبة للكثير منهن، لا يعدو الأمر المرحلة المؤقتة، يجمعن خلالها مبلغاً من المال، يمكنهن والعائلة من الهجرة ومغادرة البلاد.

بسبب خطأ، يشكل جوهر اللغز في الرواية، يبدأ عالم زبيدة وشبكتها في الانهيار. ومحسن خفاجي المطارد من المقاومة، يحاول الأميركيون إلقاء القبض عليه بعدما شكوا فيه، فلا يجد سوى البحث عن زبيدة وابنته والسعى للبحث عن ملجأ أو مهرب من الجحيم.

تتقابل الهويات في الرواية. وبدقة، يرسم كولا ملامح شخصياته، موضحاً الاختلاف والفردية فيها. فلا يوجد عراقي واحد، أو أميركي واحد. فالأميركي المسلم، يختلف عن الأميركي الذي يعمل في القيادة السياسية، ويختلف عن البريطاني الذي يعمل في قوات الاحتلال، كذلك العراقي القادم من البصرة يختلف عن ذلك القادم من تكريت. من أكثر العلاقات الكاشفة في الرواية تلك التي تتبدى حينما يبدأ محسن خفاجي عمله داخل المنطقة الخضراء حيث يحكم الأميركيون العراق. يذهب إلى الكافتيريا التي تعج بكافة المأكولات والمشروبات الأميركية والعالمية، فيجد أنهم لا يقدمون الشاي، ببساطة لأن الأميركيين لا يشربون الشاي، بل يفضلون القهوة معظم الوقت. يتعرف خفاجي على العامل الهندي الذي يعمل في الكافيتريا، فيحضر له الأخير كوب شاي من غرفة العمال. ويروي له الهندي أنه كان يعمل خادماً لدى شخص في السعودية، لكنه كان يعامله بشكل سيء، فترك السعودية وحصل على وظيفة هنا في المنطقة الخضراء. وطوال الرواية، بسبب حبهما للشاي وتدخين السيجارة، تنشأ بين الاثنين علاقة خاصة بلغز يستحيل أن يفهمه الأميركي أو سكان العالم الأول، الغزاة.

هذا التلخيص المجحف للرواية، لا يمثل جوهرها الأدبي، فكل هذه الحبكات والمطاردات والانفجارات مكتوبة بلغة سردية في منتهى الشاعرية. بل إن الشعر عنصر درامي أساسي في فك اللغز وفهمه.

يلعب محسن خفاجي مع ابنته، مروج، لعبة قوامها أن يلقي أحدهما على الثاني قصيدة ما، لكنه يحذف منها بيتاً في المنتصف، وعلى الطرف الآخر تخمين المحذوف من القصيدة من تتبعه للايقاع وتحليله لبنيتها.

الشعر لغز، والقصيدة المفقود منها بيت هي ساحة جريمة. خفاجي يمارس عمله الشرطي في فك ألغاز الجرائم الغامضة المتتالية، مثل ناقد أدبي يحلل قصيدة شعرية، فيعرف المحذوف منها من تحليل السياق. وفي وسط المعارك وصوت الانفجارات، يهذي بقصائد الشعر، فيجد طريقه وسط دخان الحرائق. تحترق بغداد، وتتعفن المنطقة الخضراء بالأكاذيب والفساد الذي يدير به الأميركيون معركتهم. يحلم خفاجي ببيت يجمعه وزبيدة وابنته مروج، فيسكنون بيتاً من الشعر في قصيدة عن الحرب.