جائزة ساويرس ولُغات الآخرين

شادي لويس
الجمعة   2019/02/01
اللغة دائما لغة الآخر
"ومثلما يتساءل دريدا: كيف لأمرئ أن يرى لغة لغته؟ قد لا تكون الإنكليزية في نهاية المطاف ملكية إنكليز إنكلترا، لكن المؤكد إنها ليست ملكيتي. فاللغة دائماً لغة الآخر. والمضي إلى لغة هو دائماً انتهاك. وما أسوأ أن تبلغ براعتك في اللغة أن تسمع في كل عبارة تسقط من قلمك أصداء استعمالات أسبق تذكرك بمن امتلك العبارة من قبلك".
(هنا والآن: رسائل كوتيزي وبول أوستر، ترجمة أحمد شافعي)
 
يستشهد الروائي الجنوبي أفريقي، جون كويتزي، بكتاب دريدا "الأحادية اللغوية للآخر" ليفتتح عدداً من الرسائل عن اللغة واللغة الأم وامتلاكها، وسيتبادلها مع الكاتب الأميركي، بول أوستر. كان كوتيزي الذي ولد لعائلة أفريقانية، وكتب أدبه بالإنكليزية، مؤهلاً بالحساسية النابعة من التجربة المباشرة، لتفهم معضلة دريدا مع لغة الكتابة. فدريدا، ذو الأصول اليهودية، جزائري المولد، لا يشعر بامتلاك الفرنسية، وإن كانت "الفرنسية هي لغته الواحدة"، التي يحبها ويتشدد في قواعدها الصحيحة. ففيلسوف التفكيك، الذي يذكرنا في كتابه بإسقاط حكومة فيشي للجنسية الفرنسية عن مواطنيها، يصل إلى حُكمٍ عام شديد الخشونة، وهو أن اللغة هي ملكية الآخر دائماً.

ويبدو أن كويتزي يوافقه. فلا هو، ولا دريدا، استثناء. وكما يقول في الرسالة نفسها "وأن لكثير من الكتّاب والمفكرين علاقة زائلة مع اللغة التي يتكلمون بها أو يكتبون بها، بل إن مجرد وصف المرء لغته التي يستخدمها باللغة الأم، بات في واقع الأمر شيئاً عفا عليه الزمن".

قبل أسبوع، وبعدما أعلنت جوائز ساويرس الثقافية، ثار جدل محدود في وسائل التواصل الاجتماعي حول فوز رواية "المولودة" لنادية كامل بالجائزة الأولى-فرع كبار الأدباء مناصفة. فـ"المولودة" كانت الرواية الأولى بالعامية المصرية التي تفوز بـ"ساويروس" والتي أضحت الجائزة الأهم في الساحة الأدبية المصرية اليوم. لكن سرعان ما خبا الجدل، فمسألة صلاحية العامية للكتابة الأدبية بدت وكأنها قضية أرشيفية تعود إلى نصف قرن مضى، إن لم يكن أكثر، وتفتقد لدماء طازجة لتجديدها. فالمؤسسة الأدبية في مصر كانت قد رفعت العامية، وفي الشعر تحديداً، وهو أصفى درجات اللغة تجريداً وكثافة، إلى مصاف الند للفصحى، والقرين الملازم للهوية في اللحظات التاريخية الأكثر مفصلية، من بيرم التونسي إلى صلاح جاهين وفؤاد حداد والأبنودي وآخرين. أما السير الشعبية الشفهية وملاحمها المغناة والنصوص التراثية المكتوبة بخليط من العامية والفصحي، فأكسبت العامية اعترافاً، متأخراً قليلاً، بوصفها لغة حاملة للتراث ومعيناً غنياً لموارد الكتابة في الحاضر.

لكن، مع هذا، فإن فوز "المولودة" والجدل من حولها، يبدو فرصة مناسبة للنظر مرة أخرى في علاقة الأدب بلغة الكتابة، وعلاقة الكاتب/ة باللغة الأم، أو اللغة "الرئيسية" كما يسميها كويتزي في رسائله. فالأدب الحديث، في ارتباطه بالمطبعة، وصعوده كمنتج جماهيري صالح للاستهلاك على نطاق واسع في الغرب، كما نفهمه اليوم، ارتبط بانتصار اللغات الوطنية أو تغلب لسان العامة على الألسنة المقدسة. حلت اللغات الأوروبية محل اللاتينية كلغة للفكر، أما الألمانية التي كانت لغة الكتابة في وسط أوروبا إلى حين، فقد أفسحت مجالاً للغات أصغر. لكن مشروع الأدب القومي، والمرتبط عضوياً بالدولة الأمة، كان كغيره من مقوماتها، مؤسساً على بضع أساطير، وأعمدة مختلقة في معظمها. فاللغات القومية الصاعدة كانت قد تمت هندستها إيديولوجياً، وفرضت بقليل أو كثير من القمع من أعلى. ولم تكن العربية الفصحى استثناء، فاللغة التي يشار إليها أكاديمياً بـ"العربية القياسية الحديثة" والتي طُورت في أروقة الصحافة الصاعدة في القرن التاسع عشر، وتبنتها الدول الوطنية في المنطقة بعد الاستعمار، لم تكن هي لغة التراث ولا اللغة الدارجة، بل لغة لم يتكلم بها أحد قط من قبل، ولا يتكلم بها أحد إلى اليوم. وفيما نجحت مشاريع اللغات القومية المستحدثة، بأقدار متفاوتة في العالم، فإن مشروع الفصحى فشل، سواء على مستوى عروبي لتوحيد لسان الأمة، أو على مستوى كل بلد على حدة لتحويل الفصحى لغة الشعب. لكن هذا الفشل لم يكن كاملاً، فالفصحى تظل إلى اليوم، لغة الكتابة والنشر، والدولة ومؤسساتها، والتعليم (على الأقل رسمياً).

يكتب أوستر في معرض رده على كويتزي، "لغة المرء منا تستشري فيه بعمق يجعل إحساسه بالعالم يصاغ بقوة اللغة التي يتكلمها... ذلك أنه العالم، والعالم لا يوجد إلا في لغة واحدة، ويصادف أنها لغة المرء لا سواها". يفشل أوستر الذي ينشأ في بيئة أحادية اللغة، في إدارك أطروحة كويتزي ودريدا من قبله. فأن يكون "وسيط العلاقة بالواقع- بصورة لا لبس فيها- هو لغة واحدة" هو وضع استثنائي وربما مستحيل، فيما تظل التجربة الأكثر حضوراً في عصرنا هي الكتابة بلغات الآخرين، حتى ولو كنا نكتب بلغاتنا الأم.

تبقى الفصحى، لغة الكتابة المهيمنة، بلا تهديد يذكر. لكنها لغة منفصلة عن جانب لا بأس به من العالم الذي نصوغه بلغاتنا اليومية، وباردة تجاه أحاسيسنا التي نشعر بها تجاهه وأفكارنا حوله. وربما هذا الاغتراب تحديداً داخل الفصحى، وتعاليها على الأرضي والعامي واليومي، ومحاولات الكتابة لكسر هذه الخيلاء الممهورة بمسحة من القداسة، هو جوهر جاذبية الفصحى ومناعتها، وسر بقائها، بل وهو مبرر لمحاولة تطويعها للكتابة بإيقاع يشبه العامية ويقترب من وقعها. وفي ذلك لا تختلف الكتابة بالعامية، فهي تجربة تشرد أخرى لا تقل اغتراباً، في محاولتها للكتابة بلغة نُفيت بعيداً من أرض الكتابة لوقت طويل. وبين الاغترابين، يبدو، كما يذهب كويتزي، أن تجربة الأدب تصل إلى مبتغاها في إدراكنا الكامل لعدم امتلاكنا للغة الكتابة، وبأن تمزقنا بين لغات الآخرين هو بوابة لتصورات عن عوالم كثيرة وثرية ومتداخلة ندركها ونكتب عنها بلغات عدة في الوقت ذاته.