"الصبيان المفقودون" لجينا بيري: أصل الشر لدى مظفر شريف

شادي لويس
الجمعة   2018/06/22
تكشف بيري التزييف والتلاعب بالنتائج التي لجأ لها شريف
بين العامين 1949 و1953، وفي مكان منعزل في غابات ولاية أوكلاهوما الأميركية، كان عالم النفس الأميركي، التركي الأصل، مظفر شريف، يعد تجربته التي ستغير مسار علم النفس بالكامل، وتضع أسس علم النفس الاجتماعي الجديد. ففي مخيم صيفي، بمنطقة "روبرز كيف"، قسم شريف مجموعة من الصبيان، في عمر الحادية عشرة، إلى مجموعتين، وأوكل كل مجموعة لواحد من مساعديه. كانت التجربة تهدف إلى تهيئة السياق اللازم لدفع الصبيان الذين لم يلتقوا من قبل لبناء عصبية وهوية مشتركة في كل مجموعة، ومن ثم إجراء سباقات تنافسية بين المجموعتين، لدفعهما للصِّدام. كانت حِيَل شريف ومساعديه، المتخفين في صورة مشرفي المخيمات الصيفية، قد تعدت مجرد تحريض الصبيان على العنف وإهدائهم سكاكين لليد، بل وصلت الى إخفاء مقتنياتهم، والإيعاز لهم بأنها سُرقت من المجموعة الأخرى. وفي النهاية، كان على المشرفين التدخل، لوقف العنف البدني الذي اندلع بين المجموعتين، ونشر نتائج التجربة التي تثبت أن الشر لا علاقة له بالفرد بل بالسياق. 

في كتابها الجديد، "الصبيان المفقودون"، (2018)، تعود الكاتبة وعالمة النفس الأسترالية، جينا بيري، إلى "روبرز كيف"، لفحص مجريات التجربة التي فشلت أكثر من مرة، وللتدقيق في نتائج شريف المنشورة، وكذا تتبع مصائر الصبيان الذين شاركوا فيها. تستكمل بيري، ما بدأته في كتابها السابق، "ما وراء ماكينة الصدمة" (2013)، والذي راجع تجربة لا تقل أهمية في تاريخ علم النفس الاجتماعي، هي "تجربة الانصياع " الشهيرة لميلغرام، عن الصدمات الكهربائية. كان مصممو التجربتين، معنيين بأصل الشر في العالم، لكن، وفيما كان ميلغرام يرى أن البشر على استعداد طبيعي للأذى، وطاعة الأوامر، فإن شريف كانت لديه فكرة راديكالية، رافضة لفكرة الأصول الفردية والجوانية للقسوة، وحاول إثبات أن السياق وحده ينتج عصبيات، وهويات جماعية، وإشعال صدام بينها.

وبرجوعها إلى أرشيف التجربة، والمخطوطات غير المنشورة لها، وبلقاءات مع من شاركوا فيها في طفولتهم، تكشف بيري عن قدر لا بأس به من التزييف والتلاعب بالنتائج التي لجأ لها شريف ومساعدوه، لإثبات نظريتهم. ففي المحاولة الأولى للتجربة، اكتشف الصبيان الخدعة، وبدلاً من الصراع مع المجموعة الأخرى، تعاونوا معها في مراقبة المشرفين. وفي المحاولة التالية، ومع أن الصبيان كانوا قد تعرضوا للجوع والعطش، ودُفعوا للتنافس على موارد محدودة، إلا أنه بدلاً من التقاتل على الماء والطعام، فإنهم توصلوا إلى أن أفضل طريقة للتعامل مع الموقف هو التعاون مع المجموعة المقابلة، واقتسام الموارد في ما بينهم.

لكن بيري، في كتابها، ومع تأكيدها على لا أخلاقية تجربة شريف وافتقادها للنزاهة العلمية، فأنها تتعاطف مع دوافع صاحبها بشكل كبير. فشريف الذي ولد في أزمير التركية العام 1905 وقضى شبابه فيها، شهد اندلاع الحرب التركية-اليونانية العام 1914، ومذابحها الأثنية المتبادلة في مدينته. نسبت بيري، هوَس شريف بديناميات الجماعات والهويات والصراع بينها، إلى تجربة والانهيار المفاجئ لعلاقات التعايش التي كانت سائدة في الأراضي العثمانية، بين الأتراك واليونانيين والأرمن والعرب والأكراد وغيرهم، وتحولها إلى ساحة للإبادة العرقية.

لا يجانب بيري الصواب في الكثير مما توصلت إليه في نقد تجربة شريف، لكنها ربما فشلت في فهم نقطته الجوهرية التي سعى لإثباتها، أي أن كل حدث فردي هو اجتماعي بالضرورة. تتبع بيري منهجاً فردياً في نبشها وراء تجربة "روبرز كيف"، محاولة تفهم تفاصيلها ودوافعها من خلال عدسة الحياة الشخصية لشريف، وطفولته، والصدمات النفسية التي تعرض لها. توحي بيري ضمناً بأن تجربة الحرب والإبادة العرقية، مدخل غريب على المجتمع والأكاديميا الأميركية، جلبها شريف، معه من الشرق، إلى جامعة هارفرد. وفي ذلك، تتجاهل مفهوم "البارديم" في مجال البحث العلمي، وفلسفة العِلم. فمحاولات شريف لفهم الشر البشري لم تكن بالتأكيد محاولة فردية مدفوعة بذكريات الطفولة الصادمة، بل كانت تياراً كاملاً هيمن على العلوم الإنسانية، بدءاً من عقد الأربعينات، وكان مهموماً بفهم القسوة البشرية. ولم يكن ذلك التيار مدفوعاً بأهوال حروب، جاءت من أماكن أخرى من العالم، كما أرادات أن توحي لنا بيري، بل بأهوال الحرب العالمية الثانية، وبالأخص الهولوكوست، وهيروشيما وناكازاكي. جنباً إلى جنب مع مفكري "مدرسة فرانكفورت" في الأكاديميا الأميركية، وحنة أرندت، وزيغموند باومان، وغيرهم، كان بحث شريف عن الأصل الاجتماعي للشر، معنياً بظاهرة غربية، بالأساس، وبتجربة الإبادة العرقية الأوروبية، والفصل العرقي في الولايات المتحدة، وكذا بالأهوال التي جلبتها فكرة "الدولة الأمة" الحداثية على شعوب الإمبراطورية العثمانية المنهارة. 

ومع أن شريف، كان يطور أفكاره في تماشٍ مع الباراديم المهيمن على العلوم الاجتماعية في عصره، إلا أن الأهمية التي تنسب إلى عمله البحثي تأتي من تطبيقه لفكرة الأصل الاجتماعي للظواهر البشرية في مجال علم النفس تحديداً. فالمبحث النفسي، قبله، كان فردياً بالضرورة، ومعادياً لفكرة الاجتماعية إلى درجة كبيرة، ومقتصراً على مناقشة الجواني والباطني والشخصي. جلب شريف معه من الشرق، مفهوماً اجتماعياً لـ"النفس"، في مقابل الإيديولوجيا الفردية المهيمنة على الأكاديميا الأميركية. وأعانه ذلك المفهوم على وضع أسس علم النفس الاجتماعي، أي ببساطة تحويل النظر إلى الخارج لفهم الداخل الشخصي، والمتعدد والجماعي لفهم الفردي والواحد.