لبنان في مخيال التجنيس

رشا الأطرش
الخميس   2018/05/31
رؤية الفنان الكوبي الأميركي خورخي رودريغز جيرادا لبيروت (2017)
بعيداً من الهذر السياسي والمؤامراتي المحيط بما يتداوله الإعلام اللبناني راهناً عن مرسوم تجنيس يُطبخ في كواليس "العهد القوي"، بل وربما أنجز ونضج وتم توقيعه في أجواء من السرّية المريبة.. فإن هذه القضية تسطع بصورة لبنان، وتحديداً تلك الصورة التي في مخيال طالبي الجنسية اللبنانية.

مَن يريد الجنسية اللبنانية اليوم؟ ولماذا؟

سوريون في غالبيتهم، وفلسطينيون وعراقيون ويمَنيون،... وربما بعض الآسيويين والأفارقة، بحسب ما يرشح من تسريبات.

هؤلاء الذين لم يسعفهم الحظ في التأهل لجنسية غربية أو أميركية، وعاكستهم الظروف فقطعت سبل سعيهم إليها، لأسباب متعددة، سياسية واقتصادية وأمنية. هؤلاء الذين باتت جنسياتهم الأصلية عبئاً عليهم كبشر، وأوطانهم الأم أمكنة يستحيل عليهم العودة إليها أو العيش فيها بكرامة، وبالأمان الذي يريدونه لأنفسهم وعائلاتهم. لبنان بالنسبة إليهم هو الخيار الرقم2، طالما استعصت كل الخيارات الأخرى. هؤلاء الذين يعون أنهم، في لبنان، ربما لا يحظون بالطمأنينة والاستقرار المنشودَين. إنما هما الطمأنينة والاستقرار بالحد الأدنى المستطاع، المترافق، على الأرجح، مع درجات متفاوتة من التمييز والاضطهاد على أساس "الأصل والفصل". لكنهما تمييز واضطهاد محتوَيان في إطار مسيطَر عليه، بالتطنيش أو التحمّل أو المراوغة، وأفضل من ذلك: بالالتصاق بالطائفة التي ستتكرس – أكثر من أي وقت مضى – كهوية وملاذ ووطن داخل وطن. والمجنّسون، في المقابل، أصوات انتخابية، ذخائر زعامات تعيد إنتاج نفسها. هو تجنيس الضرورة. المقايضة اللبنانية إياها. ليس الخلاص، إنما الحل المتاح.

وإذا صدقت التقارير الإعلامية عن كون نسبة معتبرة من المجنّسين العتيدين، من رجال الأعمال وأصحاب رؤوس الأموال السوريين، فهذا ما يزيد في وضوح المعنى اللبناني، أي لبنان كمُستَقَرٍّ ثانٍ. ولعل صورته المرئية من خارجه، أكثر فجاجة وصدقاً من تلك المرئية من داخله بعيني قدامى مواطنيه وعبر منظار معاناتهم (أو استفادتهم) من عبثيته واهترائه والديناميات العدوانية لمعاشهم فيه. فهؤلاء الأغنياء يختارون لبنان، دون أوروبا أو أميركا، فيبذلون في سبيل جنسيته الجهود ويمارسون الضغوط وينفقون "الهدايا"، لأسباب ثلاثة: تفادياً للنظام الضريبي الغربي الذي – بطبيعة الحال – يمقته رأس المال، أو التزاماً قسرياً بالعقوبات الدولية على النظام الأسدي وحاشيته، أو هرباً من إتاوات هذا النظام الذي لا يعارضونه بالضرورة. وفي الحالتين، تشرق صورة لبنان كمرقد دجاجة حنون، تدفئ بَيضَ الذهب في مقابل رشّة قمح ترمى في قنّها المتهالك. الصورة: لبنان الفوضى والفساد والواسطة وفن الممكن.

لا يترافق الصبو إلى الجنسية اللبنانية مع الحلم. الحلم بمعناه الإنساني العميق.

فسؤال طالب جنسية غربية عن دوافعه، غالباً ما يأتي بإجابات معروفة سلفاً: أريد أن أعيش في بلد يحترمني كفرد، يحترم إنسانيتي، لي فيه حقوق مكفولة وعليّ واجبات واضحة، مثلي مثل غيري، بالقانون، الغبن ليس مستحيل الوقوع، لكنه يبقى الاستثناء، أريد لأولادي مستقبلاً أفضل، في التربية والتعليم وفرص العمل والتطور، أو على الأقل هو وعد بمستقبل أفضل ليس محكوماً مسبقاً بانسداد الأفق، وليس مفصولاً عن المثابرة والكفاءة.

حصل، ويحصل وسيحصل، أن يزداد الذاهب غرباً، انغماساً في دينه وطائفته، حتى يمسي أكثر تطرفاً وتعصباً من أقرانه الذين ودّعهم منذ سنوات في مسقط رأسه. ربما يحبس نفسه وعائلته في غيتوهات عقائدية واجتماعية وثقافية، على غرار ما نراه في بريطانيا وفرنسا وغيرهما. بل وربما لا يصنع لنفسه الحياة النظيفة المشتهاة. لكن مثل هذه النتائج، في معظم الأحيان، تفرزها خيارات الناس أنفسهم. والمؤكد أنها ليست خيارات تفرضها عليهم أوطانهم الجديدة كشرط – ولو مُضمر – لتسيير أمورهم.

أما السوري (أو الفلسطيني أو اليمني العراقي أو الإفريقي...) الذي يضع آماله في الجنسية اللبنانية، فاحتمالات إجابته على السؤال نفسه لن تحيد عن صيغتين: هذا أفضل ما في استطاعتي الآن، والله المُعين. أو: هنا أنا قوي ومحميّ، كما كنت في ظل العصابة الحاكمة.

هي صورة لبنان، المعروفة ربما، بل والقديمة. غير أن التحديق فيها من زاوية التجنيس المرتقب، يثير في النفس أطواراً جديدة من اليأس والنفور. وفوقهما ما يعتمل في صدر كل أمٍّ لبنانية باقية في لبنان، ولا يسعها منح جنسيتها لأولادها "الغرباء"، للأسباب والمعايير نفسها التي تجعل مرسوم التجنيس الجديد صفقة تنجز تحت الطاولة، ولو مُنحت لمُستحِقين.