فان ليو.. وسينما الاتكاء على التعاطف مع القضية السورية

أيهم سلمان
الأحد   2018/10/07
تحاشى فان ليو اللإفصاح عن هوية "الأخيار" و"الأشرار" في الفيلم
منذ اندلاع أحداث الثورة السورية سنة 2011، غرقت وسائل التواصل الاجتماعي بمئات الصور ومقاطع الفيديو القصيرة، كمواد خام استمدت منها وسائل الإعلام معلوماتها، ومادتها البصرية عما يجري في سوريا، ومع تطور تلك الأحداث، دخلت القصص السوريّة في طورٍ جديد من المعالجة الأدبية والفنية، حيث صدرت مؤلفات روائية أو توثيقية عديدة، بالتوازي مع عدد كبير من الأفلام الوثائقية المستمدة من قصصٍ معاشة وتجارب شخصية لناجين أو قتلى سوريين.

لكن أحداً لم يجرؤ، على الأقل خلال السنوات السبع الأولى، على استخدام تلك القصص في تجربة سينمائية طويلة، إتساقاً مع العرف السينمائي الذي يفترض أن هذا النوع من الأحداث بحاجة لفترة من الزمن، حتى يتسنى لأي صانع أفلام روائية، صياغة فيلم طويل ذي قيمة. هذا لم يمنع ماكينة النظام السوري، من إصدار مجموعة أفلام روائية، تحاكي أحداثاً ووقائع لم يركد غبارها بعد، من وجهة نظر النظام نفسه، في سياق دعايته المضادة، التي مارسها بأشكال أخرى متعددة.

سنة 2017 جاء المخرج البلجيكي المتحمس فيليب فان ليو، حاملاً معه سيناريو كتبه بنفسه، لفيلم روائي طويل عنوانه "في سوريا"، ليبدأ تصويره في لبنان، بمشاركة مجموعة من الممثلين اللبنانيين والسوريين والفلسطينين، عن قصة حصار عائلة وجيرانها، في أحد منازل المناطق الملتهبة بفعل الحرب.
اختار فان ليو لنفسه ولشخصيات الفيلم الحصار داخل ذلك المنزل، فلم تخرج الكاميرا منه إلا في مناسبة واحدة، عندما خرجت حليمة (ديامون بو عبود) لتفقد زوجها، بعد أن تعرض لإطلاق النار خارج المنزل في بداية الفيلم، على مرأى من الخادمة الآسيوية التي أجبرت على السكوت، وكتم هذا السر عن زوجته حتى المساء، مع استحالة القيام بأي تحركٍ في ضوء النهار.

هذا ما اقترحته أو فرضته سيدة المنزل (هيام عباس)، من جملة الأوامر والإيعازات التي توجهها بنبرة عسكرية لكل من يحتمي تحت سقف بيتها، الذي لن تغادره تحت أي ظرف، في محاولة لضبط الأمور ريثما ينفرج هذا الكرب دون أن يتضرر أحدٌ ممن قبلوا الخضوع لسلطتها كما تأمل. يعكّر هذا الأمل أكثر من حدث خلال اليوم الطويل، ولو أن الغرفة الآمنة (المطبخ) ستحميهم من القذائف، وتسلُّل بعض الغرباء في ثالث محاولة، عدا حليمة وطفلها الرضيع، فقد خسرا فرصة النجاة بعد أن أغلقت سيدة المنزل باب غرفتها الآمنة، وتركت حليمة ورضيعها لمصيرهما، مقابل حماية البقية. 
خوفاً على طفلها اختارت حليمة أن تُغتصب بلا مقاومة، علَّهُم يحصلون على ما يريدون ويرحلون، لكنها لم تغفر لصاحبة الضيافة أمر التخلي عنها، ولا إخفاء سر قنص زوجها في الصباح، لتنفجر في موجة غضب وتجري إلى الخارج للتأكد من ذلك، برفقة ابنة صاحبة المنزل وصديقها. "إنه حي"، يبشر الشاب حليمة، ويتعاون معها في نقله إلى الأعلى لمعالجته، لكنه سينتظر حتى صباح اليوم التالي، ليأتي أصدقاء صاحب المنزل لنقله إلى المستشفى. تجمدت حليمة التي كانت تخطط مع زوجها المصاب في السفر تلك الليلة، قبل أن تدفع ثمن بقائها في دائرة النار فترة أطول، لكنها دفعته مرتين، أما أم يزن (صاحبة المنزل)، فقد فقدت الكثير من صلابتها بعد ما جرى، وبدأت تشعر أن الأمور خرجت عن سيطرتها، فكل ما كانت تفعله لحماية من معها، لم يمنع الضرر عنهم. 

تحاشى فان ليو الإفصاح عن هوية "الأخيار" و"الأشرار" في الفيلم، رغبة منه في الالتفاف على الصراع السياسي، والتركيز على القصة الإنسانية، ولكنه رغم ذلك لم يقدم في الفيلم أية معالجة مختلفة لما هو مألوف حول الحرب في سوريا، حيث اختار قصة لملم أجزاءها من قصص آلاف السوريين الذين عانوا خلال الحرب، وأعاد تمثيل المشاهد التي وثَّقها أصحاب المعاناة بأنفسهم، فلم يقدم أي جديد سوى أنه نزع من القصة أسبابها. عدا عن تركيبة الفيلم التي تخللها كثيرٌ من الأفعال الخارجة عن السياق، والمقدمات التي لم تعرف نتائجها، أو النتائج من دون خلفياتها، وحوارات الحشو الإنشائية، فكان السيناريو نقلاً للقصة لا معالجة لها، كما أنه أتكأ بوضوح على حالة التعاطف العامة مع القضية السورية، وأهمل بقية تفاصيل الحبكة.

لكن المخرج لم يفلت ما يجيده في ملعب الصورة، وهو مدير التصوير السابق، فكان الفيلم منسجماً كسياق بصري، بلقطات متنوعة، وحركة سلسة للكاميرا تلاحق الشخصيات عند الضرورة، وإضاءة طبيعية خافتة، تعكس أجواء القلق الدائم، رغم قيود التصوير الداخلي، التي فرضها السيناريو. كما عمد إلى ترك مساحة لشخصياته الرئيسية، من خلال لقطات ومشاهد طويلة، أتاحت لكل من ديامون بو عبود وهيام عباس، تقديم أداءٍ استثنائي.

(*) حاز الفيلم جوائز عديدة في المهرجانات الدولية، منها جائزة الجمهور لأفضل فيلم روائي في مهرجان برلين السينمائي الدولي، وجائزة الإخراج في المهرجان ذاته، إلى جانب جائزة أفضل سيناريو في مهرجان بكين، وجائزة أفضل أداء للممثلة اللبنانية ديامون بو عبود في مهرجان القاهرة الأخير.