فيلم "البابا فرانسيس": السينمائي في فخ الكنيسة

علاء رشيدي
السبت   2018/10/13
المخرج فيم فندرز والبابا "رجُل كلمته"
يمر الفيلم الأخير للمخرج فيم فندرز Wim Wenders، في الصالات اللبنانية، من دون أن يثير أية ضجة نقدية أو سجالات ثقافية، رغم موضوعته الإشكالية، ومسيرة مخرجه السينمائية التي تتطلب التوقف والتمحيص. فالفيلم صُنع بناءً على دعوة وجهها الفاتيكان إلى المخرج لتحقيقه، وهو يتناول واحدة من أكثر الشخصيات تأثيراً ونفوذاً في الثقافة الإنسانية، أي بابا الفاتيكان في روما، البابا فرانسيس، الذي يشغل منصب الكرسي الرسولي منذ العام 2013. خورخي ماريو برغولو الذي اختار لنفسه لقب البابا فرانسيس، نسبة إلى القديس فرانسيس الأسيزي (1181 – 1226).


بدايةً، يجب التذكير بأن البابا الحالي هو أول رئيس للكنيسة الكاثوليكية يتم اختياره من القارة الأميركية الجنوبية، وهو أول من اختار الإحالة بإسمه إلى شخصية القديس الأسيزي، فحمل اسم فرانسيس. أما الفيلم، فهي من المرات النادرة التي يسمح فيها لكاميرا سينمائية في الغوص والتصوير في أجواء الكرسي الرسولي، وهي المرة الأولى التي يشارك فيها بابا الفاتيكان كشخصية سينمائية.

يبدأ الفيلم بلقطات الأبيض والأسود التي تستعير حياة القديس فرانسيس الأسيزي، الذي اختار البابا الحالي لقبه. كان الأسيزي مجدداً في الكنيسة بإستعادته لخطاب الفقر في حياة المسيح، ونادى بالهارموني بين البشر والطبيعة، واستطاع أن يقرب لغة الخطاب الإنجيلي - المسيحي إلى العامة والفقراء. لذلك، رغب البابا الحالي في استلهام شخصية فرانسيس الأسيزي، فحمل اسمه، وطعّم خطاباته بموضوعات وبإقتباسات من نصوص الأسيزي.



يتضمن الفيلم كثافة في الموضوعات الفكرية، المشكلات الإجتماعية، والقضايا السياسية، التي نتابع البابا فرانسيس منخرطاً في أنشطة متعلقة بها، أو يقدم عنها الخطابات، أو يدلي برأيه فيها أمام أسئلة تستعمل في الفيلم أسلوب اللقاء الصحفي المباشر.

المشكلات الإجتماعية 
الفقر والبيئة هما الموضوعتان اللتان دفعتا البابا الحالي لإستلهام وإستحضار فكر القديس الأسيزي، لتشاركهما في الإهتمام بهما. فيعترف البابا فرانسيس الحالي بالسعي نحو الثراء والجشع كآفة تعانيها الكنيسة. تعتبر كنيسة الفاتيكان واحدة من أغنى المؤسسات العالمية. يعيد البابا فرانسيس التذكير بخطابات المسيح عن الفقر والتقشف، ويبين في حديثه أنه لا يمكن للإنسان عبادة سيدين في الوقت عينه، فالإنسان إما أن يكون تابعاً لله وإما أن يكون تابعاً للمال والجمع بين هذين السيدين مستحيل. وهنا يثير البابا فرانسيس قضية التوزيع غير العادل للثروات في النظام الإقتصادي العالمي: "إن 80% من ثروات الأرض، تتجمع في أيدي 20% من البشر)، محاولاً إدانة سياسات العزل بين الجماعات البشرية وجدران الغيتوهات والتمازيات الطبقية.

موضوعة أخرى تجمع بين الأسيزي والبابا فرانسيس الحالي، وهي استهلاك "أمّنا الأرض" بحسب تعبيرهما المشترك، والإسهام الإنساني في التلوث البيئي. يجد البابا فرانسيس أن كوكب الأرض، أكثر المتضررين من أسلوب ونمط الحياة والحضارة البشرية، وينظم لأجل هذه القضية عرضاً من إسقاط ضوئي على مبنى الفاتيكان الشهير يعرض أمام الجمهور لقطات وصوراً موثقة لجزر النفايات والإلكترونيات المستهلكة والمرمية في مساحات واسعة من الكرة الأرضية، ويستعرض الآثار الناجمة عن هذا المقدار من الثقافة الإستهلاكية وهذا الهدر الكبير لمقدرات كوكب "أمّنا الأرض".



المرأة
رغم أن كاميرا الفيلم حاولت أن تظهر إجابات البابا فرانسيس على العديد من الأسئلة والقضايا الإشكالية في الفكر والممارسات الكنسية، إلا أن أجوبة البابا لم تكن على المستوى ذاته من الإقناع بين القضية والأخرى. بدت أبهت المعالجات، تلك التي تتعلق بقضية العلاقة بين المرأة والرجل. فخطاب البابا فرانسيس في هذا الموضوع يُبنى على التكامل بين الجنسين، والمساواة بينهما، معتبراً أن أي خطاب ذكوري بحت أو نسوي بحت لا يفيد في معالجة هذه الموضوعة، ويضيف أخيراً: "بل لا بد أيضاً من تمكين المرأة". إلا أن هذا الخطاب البابوي يبقى عاماً وفضفاضاً، فلا يتطرق لأي تغييرات ينوي تحقيقها على مستوى المؤسسة الكنسية في موضوعة المساواة، ولا يشرح أي إجراءات تمكن المرأة من شغل مناصب داخل المؤسسة الكنسية التي تعتبر الدعامة الفكرية الأساسية للنظام البطريركي الذكوري السائد في الثقافة الإنسانية.

وحين يتطرق أحد الصحافيين، في حديث مع البابا إلى المثلية الجنسية، يجيب البابا فرانسيس بدبلوماسية، لكنها لا تشير إلى تغيير جذري في رأي الكنيسة في هذا الموضوع. فهو يلتزم بأنه لا يحق له ولا لأي أحد أن يحكم على المثليين، وأنه يجب العمل على دمجهم بالمجتمع، من دون أن يبيّن ما هي الخطوات التي يعمل عليها أو القرارات التي بإمكانه إصدارها من منصبه، ليغير ممارسات الكنيسة الإضطهادية عبر التاريخ، للميول المثلية التي عولجت بقمعية وتسلطية عبر التاريخ الكنسي.

البيدوفيليا
الموضوعة التي يبدو البابا أكثر حزماً بشأنها، هي حالات الإعتداء الجنسي على الأطفال، والتي تعتبر الكنيسة من أكثر المؤسسات التي تتكرر فيها هذه الجريمة من بين كل المؤسسات العالمية. هنا يدين البابا هذه "الجريمة الشنيعة"، بحسب توصيفه، ويبدو مقنعاً حين يقول بأنه يعمل على دعم القضايا القانونية التي يرفعها أهالي الأطفال المتضررين من الإعتداءات، ويؤيد معاقبة الجناة وعزلهم عن السلك الكهنوتي: "هذا استغلال للمنصب، فبدلاً من أن يعمل آباء الكنيسة على هداية هؤلاء الأطفال وإرشادهم إلى طريق الله، فإنهم يستغلون ثقة الأطفال فيهم لتتم عمليات الإعتداء الجنسي".. هنا يبدو البابا مقنعاً.

الكنيسة NGO
يضم البابا الكنيسة إلى مؤسسات المجتمع المدني NGO. هذا التموضع الذي يختاره البابا يسمح له بالتمييز بين دور الدولة ودور الكنيسة. ورغم أن الكنيسة واحدة من أثرى، وأكثر المؤسسات الإنسانية نفوذاً روحياً وسياسياً، إلا أن هذا التموضع الذي يختاره البابا للكنيسة بعيداً من السلطة، يسمح له بتحميل الحكومات مشكلات أساسية يعانيها النظام العالمي. ويتجلى ذلك في معالجته لموضوعة حق العمل، وأزمة البطالة، ومشكلة التوزيع غير العادل للثروات. لكن أيضاً، يمر الفيلم على هذه النقطة مروراً سريعاً من دون معالجة أو عمق في الطرح.

يتشكل القسم الأكبر من الفيلم من متابعة الأنشطة والزيارات الدولية التي يشارك فيها البابا، ومنها تلك المتعلقة بزيارة الأماكن المنكوبة بسبب الكوارث البيئية مثل إعصار الفليبين، ومنها زيارة أحياء السكن العشوائية خصوصاً في البرازيل. أما الأنشطة ذات الطابع السياسي، فمنها زيارة البابا إلى مناطق السكان الأصليين في القارة الأميركية الجنوبية، خصوصاً بوليفيا، ثم البرازيل والأرجنتين، وهذه تعتبر من القضايا السياسية لأنها تتعلق بإشكالية تهميش الحضور السياسي والثقافي لسكان القارة الأصليين.


خطاب سياسي آخر يُركز عليه الفيلم، وهو خطاب البابا أمام أعضاء الكونغرس الأميركي، حيث تحدث بعموميات السلام والإخاء العالمي، بل أثار قضية تجارة السلاح المستخدم في الحروب. أجزاء أخرى من الفيلم تعرض لزيارة البابا لمعتقلات أوشفيتز. في إحدى اللقطات تُحبس الكاميرا داخل معتقل إفرادي مع البابا الذي يجلس هناك في محاكاة روحية لما عايشه المعتقلون اليهود في الأقبية النازية. كذلك يعرض الفيلم زيارة البابا لإسرائيل.

في المقابل يزور البابا الأراضي الفلسطينية. مَشاهد تصوره أمام نهر تعميد المسيح في بيت لحم، لقطات أخرى تجمع بين محمود عباس وشيمون بيريز في حضوره، وهم يتبادلون القبلات، ويتحدث في الفيلم بحماس، لكننا لا نرى لقاءه مع مفتي الأزهر. يتحدث البابا عن هذا اللقاء، بينما يتابع المتلقي لقطات فيديو من لقاء حوار بين الأديان، في المدينة الأصل لولادة القديس فرانسيس الأسيزي. 

من أحدث القضايا السياسية – الإنسانية التي نلمح في الفيلم متابعة البابا لها، هي قضية اللاجئين، وذلك خلال زيارة له لموقع تجمع اللاجئين في جزيرة ليبسوس اليونانية. هناك نلمح للمرة الأولى، بين الجماهير ومحبي البابا ومنتظريه، نساء محجبات، ورجالاً من الشرق الأوسط. بينما تمر على الشاشة فيديوهات تصور وجوه العائلات اللاجئة التي استقبلت البابا. ويعرض الشريط الصوتي خطاباً لهذا الأخير يبين فيه أن قضية اللاجئين هي قضية أساسية يواجهها النظام العالمي اليوم، ويبشر وينصح بقيم الإستقبال والمشاركة، وضرورة التعامل مع اللاجئين بمفاهيم الإخاء والتضامن. وذلك رغم أن الفاتيكان يقع جغرافياً ضمن الأراضي الإيطالية التي تقود حكومتها اليوم أشد حملة تشدد ضد سياسة استقبال اللاجئين الأوروبية، والتي يتزعمها وزير الداخلية الإيطالي سالفيني.

الدعائي
يقترب أسلوب الفيلم من الشكل الدعائي. فالفاتيكان، كمؤسسة، مشاركة في إنتاج الفيلم، وهكذا يتم التعامل مع البابا في كافة الموضوعات وكأنه مفكر أو رجل إعلامي. وكأن ما يهم المشاهد هي آراؤه وأقواله في هذه الموضوعات الشائكة. لكن الشخصية الرئيسة في الفيلم، تتربع على واحدة من أقوى المؤسسات الحديثة، ويجب التعامل معها ومساءلتها من باب ما أقدمت عليه من خطوات إدارية وقرارات تنظيمية كنسية، ومن باب التغييرات والمشاريع التي يفترض أنها تعمل عليها لأجل التغيير في داخل المؤسسة الكنسية. فالمخرج يعتمد في فيلمه على لقاءات كاميرا الفيلم مباشرةً مع البابا، أو على لقاءات قام بها صحافيون آخرون تظهر في الفيلم، أو على خطابات جماهيرية ألقاها البابا في مناسبات مختلفة، من دون أن ينتج الفيلم أي مقاربة نقدية أو استقصائية تبين مفارقات بين خطاب البابا، وبين أفعاله وطريقة إدارته لمؤسسة الكنيسة.



قصص ميثيولوجية
بما أن الفيلم يتعامل مع آراء البابا فرانسيس مقرباً إياه من شخصية المفكر، فلا بد من التطرق إلى مجموعة من المسائل الفكرية التي ندرت معالجتها كنسياً ودينياً ويتطرق إليها الفيلم. نذكر تلك القضية الحساسة على المستوى الفكري، التي أثارها البابا منذ وصوله إلى منصبه الحالي، والمتعلقة بإعتباره النصوص المقدسة شكلاً ميثولوجياً يكتسب أهميته عندما يتطور ويتفاعل في الثقافة الإنسانية عبر التاريخ. تمس هذه النقطة حجر أساس في الفكر الديني عامةً، وليس في الفكر المسيحي فقط. فالتعامل مع النص الديني كنص أسطوري اكتسب أهميته عبر التاريخ الإنساني، ليس شائعاً حتى في أشهر كتب "نقد الفكر الديني". لكن الفيلم يمر عليها سريعاً وبلا استفاضة في فكر البابا. وفي منحى فكري آخر، يشجع البابا على مفهوم "الثورة"، المفهوم الذي يعتبر خطاً أحمر في الفكر الديني الغارق في إشاعة خطابات عن وجوب طاعة الحاكم، وطاعة الله، والتسامح، على اعتبار أن مفهوماً كالثورة يؤدي إلى زعزعة استمرارية النظام البشري. لكن البابا يقول: "يجب عدم الخوف من ذكر كلمة ثورة"، وذلك لتشجيع الناس على المطالبة بحقوقهم.

الفكاهة
بلفتة ذكية، يختار فندرز من بين كل الأقوال والشهادات، التي سجلها للبابا، أن ينهي فيلمه مونتاجياً بحديث البابا عن الفكاهة. فلطالما اعتبر الهزل والفكاهة من ألد أعداء الخطاب الديني، الذي يفضل ويقوم بلا شك على الرصانة وفكر الآلام والجدية. كما أنه وفي الفنون الدينية، المسيحية وغير المسيحية، تعتبر الفكاهة أسلوباً غير محبذ أو بالتالي مرفوضاً. أما بالنسبة للبابا فرانسيس، فيؤكد في الفيلم أن على الجميع التمتع بحس الفكاهة. ويروي أنه، صباحاً بعد كل صلاة، يستحضر في ذهنه مقاطع من قصيدة "صلاة الفكاهة والمرح" لتوماس مور، الذي نعرفه بلقب المفكر توماس مور، بينما يطلق عليه البابا لقب "القديس توماس مور". ويقول مطلع "الصلاة": "يا رب، اعطني نعمة الهضم الجيد، لكن أيضاً ما أهضمه، اعطني صحة الجسد، وروح الكفاهة الكفيلة بالحفاظ عليه". هذه الصلاة – القصيدة، ضمّنها البابا فرانسيس في كتابه الذي أصدره بعنوان "الله شاب".

يبقى أخيراً أن نشير إلى موضع الفيلم ضمن إنتاجات المخرج فيم فندرز السينمائية. فصحيح أن البابا هو شخصية الفيلم الرئيسة، لكن المخرج، بالنسبة إلى محبي السينما، ربما لا يقل عنه أهمية. فيم فندرز صاحب المسيرة السينمائية التي حققت العديد من الأفلام المهمة في تاريخ السينما من مثل: "باريس تكساس"(1984)، "أجنحة الملائكة"(1987)، "فندق المليون دولار"(2000). يبقى من المستغرب أن يسهم في تحقيق فيلم بهذه الأسلوبية الدعائية، بعيداً من مقاربات نقدية واستقصائية، حيث يظهر البابا فرانسيس في حالاته وآرائه الإنسانية، بلا أي بحث من قبل المخرج لكي يظهر للمتلقي ما هو أبعد من ذلك.