"مسألة الرغبة" وأدب الماكوندو: واقعية سِحرية بلا سِحر

شادي لويس
الجمعة   2017/05/12
ماكوندو "مئة عام من العزلة" بريشة الكوبي إرنستو هيرناندز
بمحاذاة مقهى "ستارباكس"، وعلى بعد خطوات قليلة من "بيرغركينغ"، وجدت المكتبة الوحيدة التي تبيع كتباً بالإنكليزية في المدينة الصغيرة، سوكرية، التي كانت يوماً العاصمة الأولى لبوليفيا. كانت شكوك موظف الفندق الذي دلني إلى عنوان المكتبة في محلها، فالرفوف كانت ممتلئة بالفعل بكتب بالإنكليزية، لكني لم أجد أعمالاً مترجمة لكتّاب بوليفيين، فمعظم الكتب كان أميركياً. لم يكن الأمر مثيراً للدهشة، فالتاريخ السياسي المضطرب لبوليفيا، وضآلة حجم طبقتها الوسطى تاريخياً، مقارنة بجيرانها وضمن أسباب أخرى كثيرة، لم يسمحا سوى بإنتاج أدبي متواضع، لم يحظ بالكثير من الاهتمام لترجمته.

احتاج الأمر أكثر من ربع الساعة قبل أن تعود مالكة المكتبة، ليتيسيا، التي تتحدث الإنكليزية بلكنة أميركية نقية جداً، من مخزنها، بالرواية الوحيدة المترجمة لديها لكاتب بوليفي. ناولتني الكتاب المترجم، وهي تهنئني بصوت واثق على حسن حظي، فقد وجدت النسخة الأخيرة من رواية إدموندو باز سولدان، مختتمة صفقتنا الصغيرة بقولها: "هذه رواية حديثة جداً، حديثة فعلاً في كل شيء". وللأسف لم تكن رواية "مسألة الرغبة" حديثة إلى هذا الحد، فالترجمة صادرة في 2003، بينما نشر النص الأصلي بالإسبانية العام 2001. لكن ليتيسيا لم تكن مخطئة تماماً.

لا يبدو أن سولدان يتمتع بجماهيرية واسعة في مسقط رأسه، بوليفيا، فبالكاد هناك من سمع عنه خارج الدوائر الأدبية، رغم أنه الروائي البوليفي الأكثر ترجمة خلال العقدين الماضيين، إذ ترجمت غالبية أعماله إلى الانكليزية. لكن الفضل في شهرة سولدان، في العالم الأنغلوسكسوني، لا تعود بالضرورة إلى إقامته في الولايات المتحدة وتدريسه الأدب اللاتيني في إحدى جامعاتها، بل أيضا كونه من رواد تيار "الماكوندو" الأدبي في القارة، والأغزر إنتاجاً في بوليفيا بين المنتسبين إليه.

ظهرت تسمية "الماكوندو" كمزحة في البداية. فتغيير طريقة كتابة اسم القرية الخيالية، "ماكوندو"، حيث تدور أحداث الرواية الأشهر لماركيز، "مئة عام من العزلة"، لتشابه طريقة كتابة "ماكدونالدز"، سرعان ما حوّل اسم القرية هذه إلى عنوان لتيار أدبي صاعد في أميركا اللاتينية منذ منتصف التسعينات. يعود الفضل في صك المصطلح إلى الروائي التشيلي، ألبرتو فوجيت، بعدما رفضت دار نشر في الولايات المتحدة أحد أعماله، بحجة افتقاده للأصالة. لكن ما افتقدت إليه أعمال فوجيت، والتي تدور على خلفية سياقات تحكمها تكنولوجيا الشبكات وسلاسل المطاعم السريعة، مع الماركات العابرة للقارات، ويتكلم أبطالها خليطاً من الإسبانية والإنكليزية، لم تكن الأصالة، بقدر عدم ملاءمتهما لتصورات دور النشر الأميركية عن الأدب اللاتيني، الذي يجب أن يكون بالضرورة من صنف "الواقعية السحرية".

وهذا التيار، الذي ينتمي إليه أيضاً سيرجيو غوميز من شيلي، ورودريغو فريسن ومارتن ريتمان من الأرجنتين، وخايمي بايلي من بيرو، يصفه فوجيت بالنيوليبرالية السحرية. يقول إن "عقوداً من التحول إلى اقتصاد السوق في القارة قاد إلى تغيير أبعد من مجرد اقتصاديات المنطقة، بل أطلق ثورة ثقافية للقرن الواحد والعشرين أيضاً. ليحل شعار الحياة المدينية المحمومة مكان غرائبية الواقعية السحرية الفولكلورية. فأهلاً بكم في العالم الجديد لأميركا اللاتينية!". والحال أنه، في قارة تحوي أكثر مدن العالم ازدحاماً، يبدو غير مفهوم أن تظل رواياتها دائرة في القرى والغابات. لكن الانتقال من الريف والبراري إلى الحضر، ليس السمة الوحيدة لتيار الماكوندو. ففي مقابل جماعية "الواقعية السحرية" المعنية بالعائلة والقرية والوطن، يبدو أدب الماكوندو معنياً بالذاتي والفردي، من دون أن يفقد صلته بالجماعي.

في النهاية، كانت مالكة المكتبة محقة في شأن صفقتنا الصغيرة. فرواية "مسألة الرغبة" تجسيد لكل ما هو معاصر في القارة وآدابها. ففيها يتتبع سولدان، الذي يصف أعماله بأنها "واقعية سحرية" من دون سحرية، رحلة بروفيسور بوليفي-أميركي للتصالح مع حادثة اغتيال والده، السياسي الشهير والروائي، في السبعينيات. تمتلئ الرواية بالرموز السرية التي يبثها أبطالها لبعضهم البعض ولغيرهم، والكاتب نفسه يضمّن روايته سلسلة من الرموز والشيفرات التي ينبغي على القارىء أن يكتشفها ويفكها، وبينها العديد من الإشارات إلىى كتابات ماركيز وبورخيس، إضافة إلى ربطها بالكثير من الترميز المتضمَّن في رواية كان قد كتبها والد البطل. ويتضح أن بطل الرواية لا يكتفي بإعادة اكتشاف الماضي، والتمرد على رمزية الأب سياسياً، بل إن سولدان نفسه يعيد قراءة أدب الواقعية السحرية، ويتمرد على آبائه المؤسسين، في سبيل نزع إكزوتيكية أنهكت تصوراتنا عن آداب القارة، والتي يبدو أن آخر ما يمكن أن تعانيه اليوم هو العزلة أو توقف الزمن أمامها.