"الصمت"لسكورسيزي..مأزق الانتشار المسيحي في أرض الإلحاد

شفيق طبارة
السبت   2017/04/29
الفيلم لا يمكن حصره ضمن نطاق المسيحية أو أي ديانة أخرى
"لماذا يا ألهي تبقى صامتا أمام هذه المأساة؟ لماذا لا تحرك ساكنا؟ ماذا تنتظر؟". هذا ليس حوارا محصورا بين أربعة حيطان، بل هو جوهر فيلم "الصمت" للمخرج مارتن سكورسيزي، الذي يترجم ظاهرة انتشار الفكر المسيحي في اليابان. والفيلم مأخوذ عن رواية شاساكو إندو والتي تحمل العنوان نفسه، وهي المحاولة الثانية بعد المخرج ماساهيرو شينودا (1971).

تدور أحداث الفيلم خلال القرنين السادس والسابع عشر، في وقت كانت مجموعة من الـ"كاكور كيريشيتان" أي مجموعة من المسيحيين التابعين للكنيسة الرومانية الكاثوليكية في اليابان، ويمارسون شعائرهم الدينية بطريقة سرية. ويعرفون بالمسيحيين المتخفيين خلال فترة "إيدو" وهي آخر الفترات من تاريخ اليابان القديم.

يبدأ الفيلم بطلب إذن من الأب فالينانو (سياران هيندرز) للموافقة على ذهاب كاهنين يسوعيين عام 1635، سيباستيان رودريغز (أندرو غارفيلد) وفرانشيسكو غارب (آدم دريفر) إلى أرض اليابان، للتحقق من مصير معلمهما الأب سيستافيو فيريرا (ليام نيسون)، وذلك بعد  شائعات عن المعلم الذي تخلّى عن إيمانه والتحق بالمعتقدات اليابانية وعقد قرانه على امرأة هناك.

لم يحصل الكاهنان على إذن الخروج بسهولة، نظرا للوضع الذي يعيشه المسيحيون هناك. فهما على دراية بكل الإضطهاد والقتل والعنف الممارس من قبل اليابانيين على الفلاحين والكهنة الذين يعتنقون الديانة المسيحية. ولكن رغم كل هذه الاجراءات التشددية، قررا القيام بمهمتهم لمعرفة صوابية الشائعات حول الأب فيريرا ودعم المسيحيين المحليين. فور وصولهما إلى اليابان تستقبلهما مجموعة الـ"كاكور كيريشيتان". فيصبحان مرجعا دينيا تخليصيا، ترفع الصلوات وتزداد الإعترافات وتكثر طقوس تعميد الأطفال ليلاً، لتجنب أي احتمال للأسر واكتشاف سرهم من قبل السلطات اليابانية. وبعد اجتياز عدد من الأزمات الخطرة والتي كانت تهدد حياتهما يبدأ الكاهنان البحث عن الأب المفقود، إلا أن رحلتهما لم تمر بسلام، فيتعرضان الى أقصى أنواع الترهيب ويخضعان للأسر ما يشكل مرحلة مفصلية في حياتهما الكهنوتية ويصبح إيمانهما عرضة للخطر.

يطرح الفيلم القوة الإيمانية للفرد، يتحدث عن الإيمان المدعّم بالماديات. لذا يعرض صنفين من الإيمان الديني، الأول للأب رودريغز الذي يعتبر أن الرموز الدينية ليست مصدراً أساسيا للإيمان. ولكن في الوقت نفسه يعيش حالة من الضياع، بين الأهمية التي تشكلها الرموز كالصليب مثلا، وبين حامل هذا الإيمان أي القلب. وثانيا الرجل المحافظ المتمثل بالأب غارب الذي يمكن أن يضحي بنفسه لمنع أي أذى يلحق بالمسيحيين أو إهانة رمز ديني.

في رحلة الأب رودريغز يظهر حجم الإضطهاد الذي يعاني منه المسيحيون مع تزايد عدد الضحايا في كل لحظة بسبب رفضهم التخلي عن الديانة أو إنكارها. وتكثر تساؤلات الأب عن صوابية الإيمان، إنصاف الدين ووجود الله، وايضا عن معلمّه فيريرا، القدوة والمرجع الديني الذي هدّم كل المبادئ والمعتقدات: فكيف يمكن أن يخسر إيمانه؟ ولماذا يعيش حالة نكران الذات فما يظهره للعلن شيء وما يشعر به ويؤمن به شيء أخر.


وهنا يطرح رودريغز السؤال الذي بني عليه الفيلم، حاملا صورة المسيح "لماذا الله صامتا إزاء كل هذا الإضطهاد؟". إلا أن المُشاهد لا يقف عند هذه الحالة، بل تبدأ الأفكار عن قدرة الله تجوب في رأسه لتتجاوز أحداث قصة الكاهن. فلماذا كان صامتا عندما تمت محاكمة المسيحيين في القرن السابع عشر في اليابان؟ لماذا كان صامتا عندما حوكم اليهود في محاكم التفتيش الكاثوليكية؟ لماذا كان صامتا عندما قتل المسيحيون بعضهم بعضاً في الحروب الدينية الأوروبية؟ واليوم مع انتشار العنف والقتل بحجة تطبيق الدين لماذا لا يتحرك، لماذا الصمت؟ أيسمع هذه النداءات؟ هل فعلاً موجود، هل الدين سينتصر في النهاية أم المعتقدات غير الدينية وطبيعة البلد؟ كل هذة الأسئلة وغيرها إن كانت خاصة أم عامة، تطرح خلال مشاهدة الفيلم.

قدم سكورسيزي في قصته رحلة روحانية، تثير الفكر والعاطفة. طرح قضية المؤمن في إطار جديد، واتبع أقصى أصناف التعذيب كي يضع المشاهد أمام خيارين، إما الموت أو التخلي عن الدين. وهنا تظهر الأحداث لتوقع المشاهد في حيرة: ما آخر مراحل الإيمان وكيفية الإنصاف بين احترام الدين رغم الإساءة الى رموزه...


الفيلم، من دون شك ليس سهل الهضم، واحتمال كبير لرفضه من قبل المتدينين والملحدين. ومشاهدته تدفع الى فهم أعمق للأسس الدينية والمبادئ في الحياة بشكل عام. ويتميز بعدم وضع الحلول ولا يجيب عن أي سؤال جدلي إن كان عن الدين أو الإلحاد على حد سواء، بل يترك النقاش مفتوحا على مصراعيه حسب رأي كل شخص وإيمانه الخاص.

ببراعة، أظهر سكورسيزي عنصريّ الإيمان والإلحاد. وأعطى لكل شخصية دورها الكامل. فلا وجود للشخصية الهامشية أو الضعيفة، كما شكلت رحلة رودريغز نقطة الارتكاز في الفيلم، بالإضافة الى جميع الممثلين الذين قدموا أداءاً مميزاً.
من جهة التصوير، تعاون سكورسيزي من جديد مع المصور السينمائي رودريغو بريت، واعتمد الكاميرات الرقمية وأفلام 35ملم، ما جعل هذا العمل السينمائي مذهلاً. وكل الخطوات التصويرية أتت بشكل مدروس ومخطط له، وكل لقطة كانت واضحة ومحددة، ما جعل العمل مفعما بالعواطف ومتنقلاً بين الخوف والطمأنينة، الفزع والإرتياح.

سكورسيزي، الذي يتمتع بأسلوب مميز في الإخراج، تغلب في هذا الفيلم على نفسه وأبدع. فمن الدقيقة الأولى تتأثر بالأحداث وتبقى متعلقا بالمجريات طوال مدة الفيلم (3 ساعات). ومن المهم التأكيد أن الفيلم لا يمكن حصره ضمن نطاق المسيحية أو أي ديانة أخرى، بل يطرح جانبا مهماً في حياة كل فرد، التجسيد الحقيقي للمبادئ والقيم الذي يؤمن بها الإنسان والى أي حد يبقى متمسكا بها في حال أصبحت تشكل خطرا على البشرية أو على البيئة المحيطة.

"الصمت"، من الأفلام المميزة التي انتجت عام 2016 وتحديدا بالنسبة الى المخرج الأميركي، الذي تمتد حياته المهنية منذ أكثر من خمسين عاما. وأتى هذا العمل السينمائي كتكملة للمواضيع السابقة التي يعالجها مثل الهوية الإيطالية/ الأميركية، الإيمان، السياسة، الجرائم وصراع العصابات. ونجح سكورسيزي في ترجمة مشروعه العاطفي، كما يحب أن يصفه. والذي كان قيد الدرس لأكثر من 25 عاما.

وبالرغم من عدم مشاركة الفيلم في جوائز الأوسكار إلا بترشيح واحد، نظرا للمشاكل الذي يواجهها المخرج مع هوليوود. إلا أن سكورسيزي يبقى العبقري الذي يسبح عكس التيار ومن القلائل الذين يرفضون أي توجيه أو شروط من قبل شركات الإنتاج أو هوليوود. مخرج من الطراز الرفيع أفكاره لا تهتز ولا يكترث أو يبالي بحصد الجوائز، لأن نجاحه يكمن في حب جمهوره وإخلاصه اللامتناهي للسينما.