معرض "إعادة بناء الذكريات"... تقديس الحجر وطواف حول الأطلال

ميريام دلال
الإثنين   2017/12/04
تجذب الأطلال الكلمات، حتى عندما تكون الصخور صامتة
تحت عنوان "إعادة بناء الذكريات"، افتتح معرض جماعي، ضم أعمال 12 فناناً من مختلف المجالات، في غاليري أرت لاب (Art Lab) في منطقة الجميزة بالتعاون مع جمعية حماية إرث بيروت ( Save Beirut Heritage).

في البيان الفني الذي أرسل للصحافيين من قبل منسق المعرض، الفنان البصري عفيف ديمتري حداد، يوضح المنسق الشاب ماهية المعرض كالتالي: "إعادة بناء الذكريات" هو محولة لإعادة تشكيل قصص بالإستعانة ببقايا المبنى المهدم حديثا في منطقة الجميزة مقابل مبنى غاليري أرت لاب (مترجم من النص المرسل باللغة الانكليزية)... وبحسب النص المتصدر لصالة العرض، والذي يشكل -نقلاً عن حداد- خلاصة البحث، فإن ذلك المبنى المشار له هو مبنى "مدور 651"، والذي يعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي مع إضافة جزء في الخمسينيات نتيجة إعادة اعمار الجزء الغربي للمبنى.


وبالعودة إلى البيان، يتضمن المعرض أربع وجهات نظر مختلفة للمبنى: في الاولى دراسة خارجية للمبنى منحت للغاليري من قبل جمعية حماية إرث بيروت ومجهزة من قبل المصمم مارك صوايا. الوجهة الثانية تمثل نظرة أكثر حميمية لمبنى مدور نكتشفها في الفيلم الوثائقي القصير، المعد من قبل المخرجة كلارا قصيفي بعنوان "سفر، القصة". يشترك في القسم الآخر ثمانية فنانين لبنانيين (هم نويل نصر، وطارق مراد، وجاك فرتبديان، والثنائي إيفان وغبريلا، وبترام شلش، وندى عموس، وليا بو حبيب وناجي راجي) في تخيل نسختهم الخاصة من البناء المهدم حديثاً من خلال خلق أعمال فنية مستوحات من حجرة واحدة أعطيت للفنانين، استئصلت من بقايا مبنى مدور. يختتم البيان تقديم الأقسام بالقول إن أعمال الفنانين اللبنانيين ستتعارض مع نظرة الفنان الإيراني مرتزا خسرافي، المتمثلة بترجمته لواجهة بيروت خلال اقامته في المدينة.

يبقى التجهيز الصوتي المصمم من مجموعة أصوات من بيروت للموسيقية ساشا حداد، يضاف للمعرض بهدف دمج الأعمال كافة في المكان.


في النظر إلى الأعمال الفنية الثمانية في القسم الثالث للمعرض (تراتبياً بحسب تقسيم مساحة صالة العرض حسب توضيح حداد)، يكاد يكون واضحاً جداً للمشاهد التقيد بحرفية الإملاءت التي منحت للفنانين من قبل المنسق. وقد تجسد ذلك في ترجمة الحجر بالحجر وشبه تماهي الأعمال المعروضة سواء أكانت صورة فوتوغرافية أم رسما أو رسماً تصويرياً.

مما لا شك فيه أن طريقة عرض تلك الأعمال، ساهمت في خلق جو التكرار والترجمة الحرفية للاشياء، إذ لا يقتصر الأمر على فكرة وضع حجر مختلف تحت كل عمل فني -بالطريقة نفسها- يحمل بجانبه اسم الفنان وسعر العمل المعروض المحدد ب800 دولار لكل عمل، بل يتخطاه إلى شبه توحيد لأحجام الأعمال المعروضة (فضلاً عن توحيد الأسعار). ويكون بذلك قد تحول تصور أو خيال الفنان المستثمر في خلق النسخة الخاصة للمبنى-كما ذكر في البيان- تحول إلى واقع متكرر ممنهج شبيه بعرض مشاريع تلامذة الصف الواحد، الأمر الذي سرق الخيال من تلك الأعمال وقولبها في إطار ضيق.

لم يكن مقنعاً تقسيم المعرض إلى عدة أجزاء، منها مخصص لفنانين لبنانيين وأخرى لفنان إيراني، إذ إن التعارض المذكور في البيان بين وجهتي نظر الفنانين المحليين والرسام الإيراني غائب. أما عرض الوثائقي في غرفة منفصلة ختاماً للمعرض فهو أيضاً غير ضروري، حتى وإن كان الهدف منه التأكيد على الخصوصية التي تتمثل في مجموعة التسجيلات المنزلية المصحوبة بأصوات سكان مبنى الجميزة قديماً، وهم يروون ذكرياتهم في تلك البيوت، وصعوبة التخلي عن منازلهم في وقت من الأوقات. ولعل تواصل إحدى السيدات الحاضرات ليل الثلثاء، مع زوار المعرض في الغرفة القاتم، بعدما تبين أنها كانت من بين الأشخاص المذكورين في الوثائقي، لعل ذلك التفاعل خلق بغير علم السيدة التواصل المنشود مع المعرض، من خلال تعريفها بعفوية للأشخاص الظاهرين في الفيديو حيناً، والتعليق على الأحداث المعروضة والمعلومات المقدمة على شاشة التلفاز أحياناً. وهي بذلك تكون قد خلقت مساحة ادائية، أعادت فيها بصوتها وازدواجه مع صوت الراوي خلق وبناء ذكريات.

أما فكرة الطواف حول الحجر الكبير المتوسط للاعمال الثمانية، فهي حركة شبيهة إلى حد ما بطواف الكعبة في الاسلام. وقد تكون الدعوة للدخول خلف الستارة الشبكية الخضراء (المخصصة عموما لحماية الأبنية قيد الانشاء) والتي تلف هنا الحجر الموضوع في وسط الغاليري، هي التأكيد على تقديس البناء من خلال أخذ ذكر من الحجر ووضعه في كيس شفاف أشبه بأكياس رفات القديسين الموزعة على المؤمنين. كثيرة هي تلك العلامات التي تقدس الحجر في تجهيز معرض "إعادة بناء الذكريات"؛ يتحول الزائر فيها إلى مشارك في الأداء الجماعي للوقوف النوستالجي الفني على الأطلال. ولعل قول جاي وينتر: تجذب الأطلال الكلمات، حتى عندما تكون الصخور صامتة، خير تفسير للنتيجة المنشودة التي فشل في توليدها افتعال الوقوف على الأطلال هنا.


قد يكون الحث على افتعال تعاطف/شفقة ونوستالجيا اضعف من قوة العرض، إذ يطرح تقديم أعمال فنية داعمة قضية ما فيه صعوبة، وغالبا ما تطغى قوة القضية ورسالتها على الأعمال ذاتها. يبقى ذلك منوطاً بكيفية الطرح بشكل أساسي، فحين قدم فارتان افاكيان في غاليري مرفأ عام ٢٠١٥ معرضاً بعنوان "هباء منثور من غاز وغبار"، كان الموضوع يدور في فلكية المكان والذكرى والتراث والبناء والذاكرة، لكنه لم يناصر قضية ولم يترجمها حرفياً في العمل.

تضمن المعرض وقتها اعمالاً من الأحجار أو البلور صنعت من الغبار والشعر المجهري وجزيئات الجلد، جمعت من مبنى بركات المهجور في بيروت: وهو مكان له تاريخ مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالحرب الأهلية، إذ استعمل كنقطة إستراتجية لقناصة الميليشيات على مدى سنين. بذلك صنع افاكيان نصباً تذكارياً لذاكرة جماعية لهذا المبنى. أما الجزء الثاني من المعرض فتكون من سلسلة فوتوغرافية لجسيمات فضية جمعت من حطام أفلام نيغاتيف وجدت في المبنى ذاته، وأعاد بذلك افاكيان خلق صورة تحتوي على كل المعلومات التي كانت في الصور الأصلية، مشكلة في لوحات مبهمة لذاكرة مبعثرة وغير واضحة المعالم. قد تكثر أوجه الشبه بين معرض افاكيان والمعرض الجماعي لأرت لاب، ولكن من المؤكد أن معالجة مجموعة المواضيع قد تمت على أسس مختلفة في كل من المعرضين.