اعتقال الأمراء السعوديين.. ثقافياً

رشا الأطرش
الخميس   2017/11/09
الوليد بن طلال بين "فنانيه" في صورة من أوائل التسعينات
لاعتقال الأمراء ورجال الأعمال السعوديين في الرياض، وجه ثقافي أيضاً.

فماذا بعد استعادة السِّير الذاتية للوليد بن طلال، وصالح كامل، والوليد آل ابراهيم، ومعهم الخط الزمني لتأسيس شبكات ART وMBC وروتانا؟ وماذا بعد نبش الأرشيف، لتعداد شركات الإعلام والإنتاج الفني والبث الرقمي، العربية والعالمية، التي قد يملك فيها كل من الحيتان الثلاثة حصصاً وأسهم؟ بل وماذا بعد ندب المشهد الإعلامي والإبداعي العربي باعتباره واقعاً، منذ نحو 30 عاماً، تحت سيطرة رأس المال التجاري السعودي هذا؟

لا شك في أن التمويل السعودي فرض أجندته "الأخلاقية" والقِيمية، منذ عقود، على ما يشاهده ويسمعه ملايين العرب في بيوتهم وسياراتهم، واليوم عبر شاشات الموبايل والأجهزة اللوحية. إلا أن البكائية هذه، وإضافة إلى كونها بلا كثير جدوى، تظهَر اليوم في نوعين: الأول بائن، ويتمثل في الأسطوانة المكرورة للتحسر على الإعلام العربي وما كان يمكن أن يحققه بشكل مختلف، لولا هوية رأس المال، وهي الآن حسرة ممزوجة بشيء من التشفّي العقيم والطفولي. والنوع الثاني، كامن ومكتوم ومترقِّب، قوامه القلق المتفشي في صفوف آلاف العرب العاملين في تلك المؤسسات: فأي قطاع سيستوعبهم، أو حتى يستوعب جزءاً منهم، إن أصابها نكوص ووجدوا أنفسهم خارجها؟

تبدو مغرية، استعادة العقود الثلاثة الأخيرة من حياة الإعلام العربي، لا سيما تحت عنوان "المرة الأولى". فتلك المرات الأولى، أطلقت ظواهر شكّلت الوعي العربي السائد بالفن والإعلام، وشتى أنواع البروباغندا/الإيديولوجيا المرافقة. ولعل الاستعادة هذه تفتح أبواباً بديلة على إمكانية تفكيك الثقافة العربية السائدة، بما هي مُعاش، وبما هي منظار تُرى عبره صُور الدِّين والمرأة والفنون، والخير والشر، والفقر والغِنى، والطفولة والرياضة والسياسة والحب ومختلف أنواع العلاقات الإنسانية وخيالاتها.

فللمرة الأولى، في تسعينات القرن الماضي، صارت هناك شاشة عربية واحدة لمُشاهدي المَغرب والمَشرق وما بينهما، إثر إطلاق MBC أول بث فضائي عربي مفتوح 24/24 ساعة في العام 1991. ونحكي هنا عن برامج حوارية وتسلية، ونشرة أخبار وحفلات موسيقية ودراما وسينما، يتابعها الملايين في وقت واحد، في خطوة تحاكي قفزات العولمة وتوحيد استهلاك الميديا، ضمن الحدود الواسعة للجمهور الناطق بالضاد.

وللمرة الأولى، في وقت لاحق من التسعينات، سمع الجمهور بـ"بدعة" تشفير البث الفضائي، عبر قنوات ART، حينما هبّ الشيخ صالح كامل لمنافسة (انتقامية) مع شبكة MBC التي كان قد ساهم في تأسيسها ثم انسحب منها لفتح دكانه الخاص. وللمرة الأولى، بدأنا نتعرض لحملات دعائية ووعظية، توظّف بعضاً من أبرز المشاهير والفنانين العرب، للنهي عن قرصنة البث وسرقته. إذ كان قد بدأت تبرز جماعات "الكابل" التي سرعان ما طوّرت مهاراتها في التحايل على فواتير التشفير وبطاقاته، ليتكون قطاع تجاري جديد، يشتري البث المشفر، ويعيد بيعه بمعرفته وبكلفة أقل للمشترك الواحد. وهو قطاع ما زال لبنان، مثلاً، محتاراً في كيفية تنظيمه وضمّه إلى شرعية البث، من دون استعداء مئات العائلات التي باتت تعتاش من هذه "المهنة". بل إن المحاولات التنظيمية هذه باتت، أسوة بملف أصحاب المولدات الكهربائية، موضوعاً انتخابياً يحسب حسابه النواب والوزراء.

وللمرة الأولى، وعبر قنوات ART الرياضية، نُقل مونديال1994 كاملاً ومجانياً، لتمسي المشاهدة مدفوعة الثمن في المونديال التالي. الأمر الذي خلق زوبعة جدل واحتجاج، لا سيما إثر العبارة الشهيرة لصالح كامل: "اللي معهوش، ما يلزموش". ووصل النقاش إلى مفاصل الخطاب الطبقي، ومفهوم الديموقراطية المعاصرة، ومسؤولية الدولة عن الترفيه، والترفيه كسلعة، واقتصاديات الإعلام بما فيها إعادة التفكير في الاحتكار و"الرأسمالية المتوحشة"، في مقابل لبرلة المحتوى الإعلامي بمنطق السوق. وتفشت ظاهرة المقاهي المزودة بشاشات تلفزيونية عملاقة تنقل المباريات، تعويضاً عما يفتقده الناس في بيوتهم، وتحوَّل موسم المونديال ومعه دوريات رياضية أخرى، إلى حالة سياحية واجتماعية أفرزت ثقافة جديدة للمُشاهدة والتشجيع والاحتفال بالفوز.

وللمرة الأولى، عبر قناة "إقرأ" (من باقة ART)، برزت ظاهرة الدعاة التلفزيونيين، وأولهم عمرو خالد. وولدت معها سجالات دينية من نوع مختلف، بدءاً من معنى إسلام الطبقة الوسطى العربية وحاجاتها الاستهلاكية والثقافية والاجتماعية في ختام القرن العشرين، وصولاً إلى تفكيك مفهوم "الإسلام الوسطي" (أو الاعتدال السنّي). ثم صعد الخطاب، خلال سنوات تالية، إلى التشدد، وأفرز خطاب تحريض وكراهية، أثّر وتأثّر بخطاب شيعي مقابل، بُنيت على أساسه قنوات تلفزيونية ومحطات إذاعية، وخُلقت له فقرات ثابتة في أبرز القنوات الإخبارية العربية، كما في الشاشات المحلية على امتداد العالم العربي. فدارت، وما زالت تدور، حلقة مفرغة من التحريض والتحريض المضاد، لا سيما مع تفاقم الصراع الإقليمي سياسياً وعسكرياً. وإن ننسى، لا ننسى، الظواهر الفنية والثقافية ذات الصلة، خصوصاً موضوع الفنانات المعتزلات اللواتي يقررن ارتداء الحجاب، إضافة إلى الفنانين المتأسلمين حديثاً، والذين تُتاح لهن/لهم فرصَ عمل جديدة، من قراءة النشرات الإخبارية إلى تقديم البرامج، في القنوات الدينية وغير الدينية.

وللمرة الأولى، غزت كتابات النقد الفني، بمستوياته المختلفة، مفاهيم البزنس والامبراطوريات الفنية وعقود الاحتكار، بأثر من تطوّر شركة "روتانا" للتسجيلات، منذ تأسيسها في العام 1982 على يد الوليد بن طلال، إلى عملاق الإنتاج الموسيقي، ومن ثم إنتاج الفيديو كليب، ثم السينما، وصولاً إلى إصدار مجلة، وإطلاق سلسلة المقاهي الشهيرة وفق النموذج الأميركي لسلسة "هارد روك كافيه". ولم يقتصر الأمر على شراء الوليد بن طلال، من صالح كامل، قنوات ART الموسيقية الخمس في العام 2003، مضيفاً إليها قائمته الاحتكارية لأكثر من مئة فنان(ة). كما لم تقف الحالة الفنية التجارية عند سيطرة الوليد على نحو 80 في المئة من الإنتاج الموسيقي العربي بحلول العام 2005. بل بات ثُلُثا أرشيف السينما المصرية اليوم مُلكية حصرية موزعة بين صالح كامل والوليد بن طلال. والكلام هنا عن الثلثين من كامل التَّرِكة، منذ الفيلم المصري الأول، بين فكّي المقص الرقابي سعودي الهوى. والموضوع هذا، ملف قائم بذاته، لا مجال للخوض في تفاصيله ههنا. لكن يكفي التذكير بأن المليارديرَين السعوديَين لم يختطفا تلك الأفلام في ليلة افتُقد فيها البدر. بل أدت إلى هذه الصفقة، مجموعة من العوامل المصرية، أبرزها الطريقة المجحفة مالياً والمُهينة معنوياً، التي تعاملت بها الدولة المصرية، وخصوصاً التلفزيون المصري، مع ورثة حقوق العرض، ومع أصول تلك الأفلام بالمعنى التقني لمعالجتها وحفظها من التلف. وقبل ذلك، كانت تداعيات تأميم السينما المصرية، بُعَيد "ثورة 1952"، وبَيع أكثر من ألف فيلم من إنتاج الأربعينات والخمسينات في المزاد العلني. وهي أفلام كانت مملوكة لـ"استديو مصر" الذي أسسه طلعت حرب العام 1935، وللمرة الأولى آنذاك، برأس مال مصري مئة في المئة.

في المحصلة، قد يصحّ التساؤل عن الاختلاف الذي ربما كان للإعلام العربي، وخصوصاً المرئي وفنونه، أن يقدّمه، بعيداً من الهيمنة المالية السعودية. هل كنا لنرى نماذج أخرى، مستقلة، أو شركاتية؟ والتجارب التي أفسحت لها المجال، التكنولوجيا الرقمية الحديثة والانترنت، منذ عقد على الأقل، بعيداً من الموازنات الكبرى، هل استطاعت تكريس خطوطها؟ بل هل كانت بديلة فعلاً؟ وإذا لم يكن هذا الثلاثي المرح من التايكونات السعودية ليهيمن هكذا، من كان ليحلّ محلّه؟ متموّلون مصريون ولبنانيون وسوريون...؟ كيف تختلف ذهنيات رجال الأعمال باختلاف جنسياتهم وثقافاتهم الأصلية، وهُم غالباً في حالة تشابك وتداخل مع النخبة السياسية والعسكرية الحاكمة؟ أم نحكي عن الدّول، ونماذج "الإعلام الوطني" التي مُنينا بها منذ خمسينات القرن العشرين، ومن بعدها الفضائيات الحكومية (لا العامة) التي تعاجلها الغالبية منا بطلقة سريعة من "الريموت كونترول"؟ وهل كان الإعلام العربي ليتفادى، كبطل فريد من نوعه، أثر العولمة والـmass production بالمعنى التجاري والمصنعي للكلمة؟ وهل هذا مطلوب أصلاً؟ وماذا عن القوالب التي تضبط الحياة السياسية، وبالتالي الحريات الفردية والإعلام والفن، في العالم العربي؟

ليس عبثاً أن بدايات "الربيع العربي" التمعت بمبادرات كانت، لوهلة، جديرة بالابتسام والتصفيق. لكن مآلات "الربيع"، التي نعرف ونذوق، تحمل في طيّاتها بدايات إجابات دامعة.