استئناف الاستشراق في لوفر أبوظبي

محمود الزيباوي
الثلاثاء   2017/11/21
أمام لوحة جان لوي لاغرونيه، العائدة إلى العام 1776، وتمثل فينوس والمستحمات
شارك الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في افتتاح متحف اللوفر الجديد في أبوظبي، والذي قاربت كلفة إنشائه مبلغ الملياري دولار، وألقى بهذه المناسبة كلمة وصف فيها هذا الصرح بأنه "جسر بين الحضارات"، "يمثل ملتقى العالمين الغربي والشرقي"، ويثبت "ارتباط فرنسا والإمارات العربية بأكثر ما يميّز البشرية عالمياً، ألا وهو المثل الإنسانية العليا".
تحدثت الصحافة العربية عن هذا المتحف مراراً، وتحدثت عنه الصحافة الغربية بشكل مغاير، ويشهد هذا الاختلاف، لاختلاف عميق في الرؤية يعيدنا إلى الكلام عن "النظرة الاستشراقية بكل ملابساتها. قبل افتتاح هذا المتحف الكبير، نشرت صحفية "الغارديان" في نهاية 2015، مقالاً بعنوان "اللوفر يأتي إلى أبوظبي" من توقيع كانيش تارور، وهو أديب قصصي من سنغافورة درس في جامعة يال، وأكمل تخصصه في جامعة كولومبيا وعمل فيها قبل أن ينتقل للتدريس في جامعة نيويورك، وهو اليوم من المكرسين عالمياً. حمل المقال مجموعة من الصور، منها صورتان لمواطنين من الإمارات يتأملون في لوحة زيتية للرسام الفرنسي جان لوي لاغرونيه، تعود إلى العام 1776، وتمثل فينوس وهي تستحم مع عدد من الحوريات العاريات. نقل موقع "عوالم وأسفار" هذا المقال إلى الإيطالية، مبرزاً هاتين الصورتين، واختار له عنوان "اللوفر في أبوظبي: نساء عاريات للبدو؟". ويعكس الاختيار، النظرة السطحية للواقع العربي، مع العلم بأن المقال يعالج بموضوعية ثاقبة، حيثيات هذا الحدث ودلالاته السياسية والثقافية والاجتماعية، في قراءة تتقاطع في فحواها مع القراءة التي قدمها الباحث السوري ناصر الرباط في مقالة نُشرت في "الحياة" منذ أيام.

أثار حضور العاريات في أبوظبي، الصحافة الأوروبية، وهذا الحضور قديم في الواقع، فقد احتلّ موضوع العري الأنثوي مكانة كبيرة في فن التصوير الأموي المدني، وأبلغ دليل على ذلك العاريات اللواتي يظهرن في وضعيات مختلفة على جدران قصير عمرة في وادي البُطن، شرقي عُمان. وهو حمّام ملكي يعود بناؤه إلى عهد الوليد بن عبد الملك بحسب الدراسات العلمية. أشهر تلك العاريات، امرأة تقف عند الجدار الغربي في صالة الاستقبال، محدّقة بثبات في كل من يدخل هذا الحمّام الأثري. اختلف البحاثة في تحديد هوية هذه العارية ذات القد العظيم، وقدّموا تأويلات تستند الى حجج تشكيلية وأدبية. فمنهم من رأى فيها "فينوس" أموية تحاكي، بقامتها ووقفتها، المثال الكلاسيكي الشهير. قيل عند اكتشاف هذه الجداريات، مطلع القرن الماضي، أنها الشهادة الأخيرة لتقليد راسخ في المشرق قضى عليه الإسلام المعادي للصور، ورسّخ هذا الاعتقاد طبيعة الصور التي تزيّن القصير، وغالبيتها تمثل عاريات وعراة في وضعيات مختلفة. أسقطت الاكتشافات الأثرية اللاحقة، هذه المقولة، وكشف المنقّبون عن جداريات أموية أخرى في مبان مدنية مهجورة في سوريا وفلسطين والأردن، تظهر استمرارية هذا التقليد الفني.

ظهر العري الأموي في الرسوم الجدارية، كما في المنحوتات التي عُثر عليها في الموقع الشهير باسم "قصر هشام" في أريحا. عُرف هذا القصر عند اكتشافه بـ"مجمع خربة المجفر"، وهو واحد من المجامع الأموية التي تمثّل ازدهار الفن المدني وتطوّره في عهد ثاني دولة في تاريخ الإسلام. من هذه الخربة، أخرج المنقبون مجموعة كبيرة من التماثيل، اشهرها تمثال للخليفة يقف منتصباً على أسدين وسط تمثالين يمثلان جاريتين نصف عاريتين تماثلان بقامتيهما عاريات قصير عمرة. لم يغب العري عن الفنون المدنية في العالم الإسلامي على مدى العصور التالية، وازدهر في فن الكتاب الصفوي بشكل خاص. في الأزمنة الحديثة، ومع دخول "الفنون الجميلة" الأوروبية إلى مختلف عواصم هذا العالم، ظهر العري جلياً في أعمال كبار الرواد، ودخل صالات العرض المفتوحة أمام الجمهور العام، قبل أن يأفل نجمه مع توسّع المد الإسلامي في العقود الأخيرة.

بالتزامن مع افتتاح متحف اللوفر في أبوظبي في 11 تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، نشرت صحيفة "لاريبوبليكا" الإيطالية، مقالاً يسلط الضوء على هذا الصرح العربي الفرنسي الذي أنشئ ليكون "جسراً بين الحضارات" بحسب تعبير الرئيس الفرنسي. رأى ناصر الرباط أن المظهر الأهم لهذا المتحف يتجلى في خروجه عن "قواعد العرض الكلاسيكية التقليدية التي اعتمدت على التقسيم الجغرافي والتاريخي والثقافي، وتقديمه الأعمال الفنية بطريقة مقارنة تبرز الجذر التعبيري المشترك لثقافات العالم كلها، وإن كان التركيز طبعاً على الفنين الأوروبي والإسلامي منذ بدايتهما وحتى اليوم". في مقال "لاريبوبليكا"، اعتير أرتورو كوكي أن هذا الأسلوب في العرض يبرز التسامح الديني الذي يظهر بشكل خاص في عرض يجمع بين تحف تعود إلى الأديان التوحيدية الكبرى، ولا "يخجل من عرض الديانة اليهودية، في بلد لا يعترف بإسرائيل". في الواقع، الآثار اليهودية الحاضرة في البلاد العربية لا تُحصى، ومنها كنيس كامل يعود إلى منتصف القرن الثالث، كشف عنه المنقبون في مدينة دورا اوروبوس التي تُعرف اليوم بصالحية الفرات.

تم نقل هذا الكنيس إلى متحف دمشق، وبوسع أي زائر أن يدخله بشكل عادي ويتأمل في جدرانه الداخلية المزينة برسوم موزعة على أربعة صفوف متوازية. وفقاً للتقليد المتبع في الحقبة الرومانية، تزيّن الصف الأسفل صور حيوانات ووجوه مجردة من أي دلائل أدبية. وتزيّن الصفوف الثلاثة العلوية، سلسلة من المشاهد التوراتية يحضر فيها عدد كبير من الأنبياء، منهم إبراهيم وموسى وداود والياس.

يتوقّف أرتورو كوكي أمام لوحة فرنسية من النسيج، تعود إلى القرن السادس عشر، خرجت من متحف كلوني الباريسي لتحط في أبوظبي، وتمثل النبي دانيال في بلاط الملك نبوخذ نصر. لا نقع على اسم دانيال في القرآن، غير أنه معروف في الإسلام، وفي الإسكندرية جامع يحمل اسمه يقع في الشارع المعروف كذلك بهذا الاسم. أما نبوخذ نصر، فهو منشئ الدولة البابلية الثانية الذي قضى قديماً على إسرائيل، وهو في كتبنا التراثية بختنصر الثاني. اعتبر النبي ارميا أن خراب إسرائيل على يد نبوخذ نصّر كان بمثابة عقاب إلهي أراد منه الرب أن يؤدب اليهود الذين خانوا عهده. ونقل ابن تيمية عن بعض المشايخ قولهم: "هولاكو ملك الترك التتار الذي قهر الخليفة بالعراق وقتل ببغداد مقتلة عظيمة جداً، وكذلك قتل بحلب دار الملك حينئذ. هو للمسلمين بمنزلة بختنصر لبني إسرائيل، وكان من أسباب دخول هؤلاء ديار المسلمين ظهور الإلحاد والنفاق والبدع".

كذلك، يتوقف الصحافي الإيطالي أمام زاوية تجمع شاهد قبر عبري من فرنسا، يجاور شاهد قبر مسلم من تونس، وشاهد قبر مسيحي من صور. ويصف زاوية أخرى تحضر فيها منحوتة فرنسية تمثل العذراء مريم والطفل يسوع بالقرب من قرآن، خُطّ في سوريا في القرن الثاني عشر، كما يصف ركناً آخر تُعرض فيها مخطوطة قرآنية من الحقبة العباسية إلى جانب مخطوطة توراتية يمَنية من العام 1498، ويختم جولته بالقول: "في هذا الشرق الأوسط الذي يمزّقه الصراع العربي الإسرائيلي، كما الحروب بين العرب السنّة والشيعة، تصدح هذه الرسالة بقوة مميزة". ويمكن القول هنا، أن الشرق الأوسط يحفل بعشرات المخطوطات والقطع الأثرية التي تعبّر عن تلاقح الأديان والحضارات والأساليب الفنية المتعددة على مدى قرون من الزمن، ومنها كتب دينية مسيحية اتّبعت في تزاويقها الطرق الإسلامية التي ظهرت في الحقب المتتالية، من العصر العباسي إلى العصر العثماني.

في الختام، يمكن القول ان هذا المتحف الذي أنشئ في الخليج ليكون "جسراً بين الحضارات" كان في إمكانه أن يحوي قطعاً محلية من الشرق، تمثل حوار الحضارات تلك، بشكل لا يحتاج إلى كل هذا التكلّف. قال إيمانويل ماكرون في كلمته عند افتتاح المعرض: "أولئك الذين يدّعون أن الإسلام يسعى لتدمير الديانات الأخرى، كاذبون". ولا نعرف لماذا غابت عن هذا الصرح البديع القطع الإسلامية المحلية التي تجسّد هذا القول. من جهة أخرى، في سعيه إلى مد هذا الجسر بين الحضارات، تخطى اللوفر الخليجي، حدود اللوفر الفرنسي، وبلغ عالم الحداثة، وتخطاه وصولاً إلى المعاصرة وما بعد المعاصرة، ويُصعب القول بأن هذا التخطي يخدم رسالة المتحف.

يبقى السؤال الذي يطرح نفسه تلقائياً: في سبيل إنشاء متحف اللوفر في جزيرة السعديات، أنفقت حكومة أبوظبي أموالاً طائلة للحكومة الفرنسية بوصفها مالكة متحف اللوفر، وبات هذا المتحف الأعلى كلفة في القرن الحالي. خصّصت أبوظبي، أكثر من 250 مليون دولار لاستعارة مجموعة من تحف اللوفر الفرنسي، لعرضها في لوفر الإمارات خلال السنوات العشر المقبلة. ولا ندري لماذا لم تُنفق هذه الأموال الطائلة لاقتناء قطع أثرية "محلية" في متحف خليجي، قبل هذا الدخول المتسارع في سباق المتاحف العالمية؟