زمن الوحوش في "أرض المستنقعات"

رامي صباغ
الإثنين   2016/12/12
في "أرض المستنقعات"، تنشأ الديموقراطيّة الإسبانيّة على طلل الفاشيّة
حظي فيلم "أرض المستنقعات"(*) للمخرج ألبرتو رودريغز، باهتمام الجمهور في اسبانيا واحتفى به النقاد. يتميّز الفيلم بخروجه عن نمطيّة معظم مختارات مهرجانات السينما الأوروبيّة التي عادةً ما يسيطر عليها أفلام، تطرح إشكالات اجتماعيّة مثل الهجرة والبطالة في إطار الواقعيّة الإجتماعيّة الدراميّة أو الساخرة. في المقابل، يسرد "أرض المستنقعات" أحداثا متخيّلة عن محقِّقين يحاولان حلّ قضيّة اختفاء شقيقتين تتحوّل إلى جريمة قتل مزدوجة.

‫في العام 1980، خلال مرحلة الإنتقال نحو الديمقراطية في اسبانيا، يجتمع المحقق اليساري الشاب بيدرو مع الفاشي السابق المخضرم خوان في قرية أندلسيّة، عند منطقة مستنقعات نهر كوادالكيفير لمواجهة قاتل متسلِّل. من ناحية التأليف القصصيّ، يقترب مخرج وكاتب الفيلم ألبرتو رودريغز من السينمائيين المؤلِّفين في عودته إلى الثيمة الدراميّة التي طرحها في فيلمه السابق "يونيت 7" (وحدة رقم سبعة)، أي فضح فساد الليبيراليّة الإسبانيّة داخل إطار فيلم تشويق بوليسي. إلّا أنّ الفيلم يرتكز على القدرة الإخراجيّة في خلق مقامات محيطيّة مناسبة للأحداث الدراميّة أكثر من اعتماده على الكتابة الدراميّة. تلك الأحداث تتشابه مع العديد من أفلام التشويق التي تتمحور حول تحقيق يؤدّي إلى اكتشاف قاتل متسلِّل. كما يقلِّلُ ‫ألبرتو رودريغز من ‫دراسة الشخصيّات الممثّلة وتحوّلاتها مع مرور الأحداث مقابل التركيز على التشكيل الصوري، حتى إن الأبعاد النفسيّة للشخصيّات تبدو كحبكات سفليّة تظل غير مكتملة حتى نهاية الفيلم. الأمر الذي أوجد حول ‫شخصيّات الفيلم غموضا يتلاقى‫ مع التشويق السردي كما أعطى للممثلَيْن الرئيسيَّيْن مساحة أكبر لرسم عوالم داخليّة مضطربة شبه مخفيّة.‫ يقوم الأسلوب الإخراجي على إظهار التصوير السينمائي كالأداة الصانعة للعالم الممثّل، فمدخل‫ الفيلم مشاهد واسعة مأخوذة من السماء لمساحات مقفرّة، ضمن تشكيل يقارب التجريد لتبدو الأراضي كأنّها تشريح لنخاع بشري أو أنماط لأثار بصمات. إفتتاحيّة تضعنا مباشرة أمام خيار الإخراج: التمسّك بالواقع ضمن أسلبته.

في "أرض المستنقعات"، تنشأ الديموقراطيّة الإسبانيّة على طلل الفاشيّة. وكما كتب أنطونيو غرامشي في كتابه "كراسات السجن": "الأزمة تتوقّف على حقيقة أنّ القديم يحتضر والجديد لا يستطيع أن يولد بعد، في هذا الفاصل تظهر أعراض مرضية كثيرة وعظيمة في تنوعها". بانتظار العالم الجديد، يظهر مسخ لم يكن له مكان في العالم القديم. القاتل المتسلِّل ينتمي بفرديته إلى طموح الليبيراليّة المقبلة على إسبانيا، التي تحاربه لإيصاله إلى التفرّد عن الجماعة. في العالم القديم، كان لهذا القاتل وظيفة داخل ماكينة القتل والتعذيب الفاشيّة، حتى انَّ الفيلم يُشير إلى أنَّ في ماضي المحقِّق المخضرم خوان ملامح من هذا القاتل. أمَّا بعد سقوط المنظومة الفاشيّة، فالقاتل المتسلِّل هو مستقل وعليه إبراز تميّزه عن مجتمعه - كما تنصّ الليبراليّة - برمي قتلاه في نهر أرض المستنقع.

يجرّ سقوط الفاشيّة زوال حليفتها الأولى أي الأرستقراطيّة الريفيّة. في الانتقال من الفاشيّة إلى الديموقراطيّة، ينتقل فساد الإقطاع إلى البيروقراطيّة حيث يجد المحقِّقان نفسيهما في مستنقع البيروقراطية القذرة التي ما زالت تحمل أُسس العالم القديم. في الفيلم حبكة سفليّة حول فساد البوليس تبقى معلّقة كما لو أنّ المستنقع الحقيقي الذي فيه الشخصيّات أكبر من قدرتهم على كشفه، الأمر الذي يعيدنا إلى المشاهد الواسعة الأولى التي تتضح أكثر من محيط تشكيلي لتصبح إستعارة فيلميّة.

من الصعب مشاهدة "أرض المستنقعات" من دون تذكّر المسلسل التلفزيوني True Detectives (المحققون الحقيقيّون). بين التشكيل والطرح، يتشارك العملان بفكرة محوريّة: الليبراليّة الحديثة التي تخلق الفرد ثمَّ تستعرض تطهير نفسها من شرّه خافيةً الجحيم التي تقوم به نخبة البلاد في كواليسها. كما ‫تجمع حرفيّة المشهديّة والتشكيل وتقارب الثيمة طموح ألبرتو رودريغز بالقيام بما نجح به المخرج الأميركيّ دايفد فينشر من خلال فيلمه التسعيناتي Seven: فيلم تجاري ناجح ضمن تشكيليّة تصيب الجمهور الواسع بواقعيّتها والنقّاد بأسلبتها. 


(*) عرض ضمن أسبوع الفيلم الإسباني في سينما ميتروبوليس.