إلى حياة فلسطينية متأخّرة

مازن معروف
الجمعة   2013/05/31
 في "zone 6"، العرض الذي قدمته فرقة المسرح الوطني الفلسطيني على خشبة "تياتر دي ميتالو" في باريس، تمسَّكت نصوص العمل القصيرة والمستقل بعضها عن بعض، بثنائية "المعتدي" و"المعتدى عليه" كنواة للحالة الفلسطينية بكل تعقيداتها الاجتماعية والسياسية وتخبطاتها على المستوى الداخلي وتفتت نسيجها السياسي الداخلي. نصوص قصيرة (كتب معظمها حسام أبو عيشة، باستثناء نص لابراهيم جابر ابراهيم وآخر لكامل الباشا)، فُتحت فيها المخيلة على مساحات مستفزة جمالياً ووجودياً، لتترفع عن البكائيات التي ما زال يطوف فيها بعض الشعراء والكتّاب الفلسطينيين. النصوص تقاسمت في ما بينها مجموعة من الثوابت: الاحتلال، الفقر، الموت، العائلة، الحب/ الجنس، الضحية، الرغبة بعودة أخيرة إلى الحياة. وقد وضعها كُتَّابها في مخبز الفكاهي الفلسطيني، ماضغاً بابتسامةٍ عجينها أمام الجمهور الذي ملأ الصالة. 

الجدير ذكره تألق نصوص أبو عيشة، الذي لم يفسح المجال لأحد لكي يختلف معه سواء في الشطر الواقعي من القصص المسرحية التي أديت أو في شطرها التخييلي. كذلك الأداء الجميل لأعضاء الفرقة (شادن سليم، ياسمين همار، حسام أبو عيشة، علاء أبو غربية، كامل الباشا، داوود طوطح). فهمنا أن هناك صراعاً قديماً، و"لا عدل" بعمره، يجوز أن نضخ فيهما مصل الـ"كفى" من دون أن نزعق أو نحتل منبراً أو نستل بندقية. فالفلسطيني مواطن يفتش عن جغرافيته الصغيرة، بالمعنى اليومي/الفردي، وليس فقط السياسي. وهو في رغبته هذه لا يختلف عن الفرنسي خصوصاً (الذي لم يسلم من كوميديا أبو عيشة) أو أي مواطن آخر في العالم. كفلسطيني، يحق له أن تعيش متجرداً أو منتمياً، عادياً يمر بك الوقت دون التوقف عندك، بدل إلزامك بلبوس الضحية الخارقة للكاميرات والبيوت والمترسِّبة في التواريخ صغيرة كانت أم كبيرة.
 
وبرغم أن تبسيط الواقع الفلسطيني إلى مطلقين ("معتدٍ" و"معتَدَى عليه") في العمل الذي تشارك عادل حكيم وكامل الباشا في إخراجه، غيَّبَ هذا العمل الديناميكية الاجتماعية والاقتصادية المحكوم بها شعبا "المعتدي" و"المعتدى عليه" في تجاورهما قسراً، إلا أنه عزز من قوة الشقّ التخييلي في النص، وأطلق العنان للكتاب عموماً (وأبو عيشة تحديداً) لطرح إشكاليات وجودية، باللهجة الفلسطينية والعبارة اليومية. كذلك أسهم في فهم "السينوغرافيا البيضاء" أو "سينوغرافيا الفراغ" التي واجهت الجمهور. فالمنصة لم تكن في حاجة إلى أن تُملأ بأكثر من ستة كراسٍ للمؤدين. قد يكون للواقع الفلسطيني "القديم" و"المتجدد" بالصيغة القديمة نفسها، الفضل في إعلاء شأن النص، إذ لم يكن صعباً على الحاضرين، ونفترض أنهم جميعاً مؤيدون للقضية الفلسطينية، تولي رسم السينوغرافيا "الإخبارية" في أذهانهم. وهي مسألة إشكالية، تسجل فيها المعالجة الأدبية اللمّاحة والساخرة نقطة على حساب الواقع التراجيدي.
 
الموت يمثل وسيطاً تعبر الشخصيات من خلاله من وإلى الذاكرة، الأحلام، الذات، الأفراح، "الأمر الواقع"، الألم، الأخطاء اليومية، تبعات الاحتلال. القبر/المقبرة في مقابل المدرسة المهدّمة/البيت المُدمَّر/الحي الذي استحال أنقاضاً، إلخ... تمثّل الجهتين اللتين تستقبلان "الميت المنزعج"، أو تنفِّرانه، فيما يحضر الاحتلال كحالة لا نهائية، تلاحق الموتى حتى قبورهم لتفرغ رصاصها فيهم من جديد.
 
من هنا، يتوالد الحوار، ويتفرّع ناقلاً الحالة الفلسطينية، كإبرةٍ ممغنطة، من قطب الخسارة والمرارة إلى قطب السخرية الحادة. ومن هنا، يتشكل التماس الأخير مع كل الأمنيات المتأخرة والواجبات التي لم تؤدَّ، سواء لخوفٍ، أو لعدم اكتراث أو لقلة انتباه إلخ.. وجميعها واجبات يومية، "بسيطة"، وجودية في نطاق فردي، غير سياسية بالمعنى الإيديولوجي ولا هي ملتزمة بالوظائف التي ألصقت بالإنسانية الفلسطينية كـ"الشهادة"، "التضحية"، "المقاومة" والتي جردتها من قيمة كل ما هو "عادي"، و"عابر" و"لا بد". من هنا، يسائل أبو عيشة مثلاً من خلال حالة الغياب (موت الشخصية سواء كانت طفلة، أم، زوج، شيخ، عجوز.. إلخ.) الملامح الفلسطينية "الأسطورية"، والتي كبَّلتْ الفرد، وغيَّبت موضوعه الشخصي على حساب الموضوع العام – القضية. وما اعتدنا على تلمّسه في النصوص الفلسطينية، كالهوية، والانتماء، والتشديد على قدسية الأرض وملكيتها، توضع خلف ظهر الكاتب والمسرحي، مرة أخرى، كمسلمة أو "نواة" من الواجب أن نبحث فنياً خارج كماشتها.