منيرة القبيسي..والاختباء بين الأبيض والاسود

صبا مدور
الأربعاء   2022/12/28
ليس مهماً اليوم تقييم ما تمثله جماعة القبيسيات من أثر ومكانة في المجتمع السوري فذلك مما ينشغل به المتخصصون في الحركات الاسلامية أو في علم الاجتماع. لكن ما يهم بشكل خاص هو ذلك الجدل الذي أثاره رحيل مؤسسة الجماعة منيرة القبيسي وردود الفعل الواسعة والمستنكرة من قبل السوريين على نعيها من شخصيات معارضة معروفة رغم معرفتهم العميقة بعلاقة الجماعة مع النظام. ما شكل مفارقة موحية بأن شخصيات إسلامية من المعارضة تتفق مع النظام في نعي القبيسي والإشادة بها وبدورها.
مشكلة هذه المفارقة غير المسبوقة أنها خلقت ضبابية قاتمة لدى أبناء الثورة للفرز بين الرموز بعد 12 عاماً من تضحياتهم. فكيف يمكن للمرء أن يحظى بتقدير الثوار وهو في ذات الوقت زعيم جماعة أبدت دعماً علنيا للنظام غير مرة، وبالغت في أخذ الصور بالابتسامات مع الأسد وأبنائه مقابل وصف الثوار ب"قطاع الطرق"؟
 كيف يمكن لمن آمن بالثورة ودفع الغالي والنفيس من حياته ودمه ومستقبله أن يستسيغ فكرة أن قيادات في المعارضة التي ترى الأسد قاتلاً تشيد وتمتدح في ذات الوقت سيدة تتزعم تنظيماً يخدم النظام ودعايته، وكان له نصيب لا تعرف حدوده في تحريض المجتمع السوري ضد الثورة والثوار؟
في الثورات التي تستحيل دماً ودماراً بالشكل الذي حصل في سوريا، لن يكون سهلاً ومرضياً عزل سلوك الناس والجماعات عن بعضها، فالدم الغزيرالذي سكب من أجساد السوريين وتشتتهم بين المنافي، والذل الذي عانوه وما زالوا، والظلم الذي تعرضوا له، لا يُبقي فرصة لمجاملة أحد، أو للفصل ما يبدو من "ورع" أحدعم عن مواقفه. فلا خنادق متداخلة في حالة سوريا، ولا لون رمادي يمكن الركون إليه، أو الاختباء فيه، هناك فقط أبيض أو أسود، خندقان لا غير يحكمهما الموقف الأخلاقي لا السياسي، إما مع كرامة الناس أو ضدها، وحتى مع استثناء من لاصوت ولا دور لهم من المغلوبين على أمرهم في داخل سوريا، فإن السيدة القبيسي هي بالتأكيد ليست من بينهم مع ما كان لها مكانة ودور ونفوذ وسط النخب السورية وفي قلب المحركات الاجتماعية في دمشق وكبريات المدن السورية.
كان بإمكان الشخصيات التي نعت القبيسي وعددت مناقبها وتعمدت تجاهل علاقتها مع النظام أن تكتفي بالترحم عليها والدعاء لها، بدلاً من الاستعراض الذي استفز مشاعر الكثير من السوريين. ولواعتقد هؤلاء أن سلوك الجماعة في تأييد النظام منفصل عن مواقف زعيمتها كما كتب بعضهم، فليس أقل من أن يقرنوا نعي القبيسي برفض موقف جماعتها واعتبار أن "القبيسيات" انتهت كحركة دينية  واجتماعية ولم تعد محل تقدير ولا ثقة ما دامت قد اصطفت مع النظام وبررت له سلوكه. لكن تلك الشخصيات قامت بالأمر ذاته الذي كان من بين أمراض الثورة وأسباب أزمتها، وسمة لدى النظام، وهو اتهام الجميع بالجهل والغباء، واتخاذ مواقف تثير الفرقة والحيرة والانقسام في أمر لا يضر ولا ينفع.
المشكلة هنا أن كل ذلك يحدث في لحظة فارقة في عمر الثورة، لحظة تراجع وانكسار وطرح أسئلة عميقة وصعبة عن جدوى الأثمان الغالية التي دفعت، وجدارة الشخصيات التي قادت وأرشدت، وما إن كان السوريون قد تعرضوا للخداع والاستغلال على جانبي الصراع، بل وعن مصير سوريا وسط هذه المفارقات والتناقضات والتداخل في المواقف والخنادق والأدوار.