إدلب:قصص النزوح المفتوحة من تهجير إلى آخر

نهاد طوباليان
الأحد   2020/02/09
© Getty
لم تكن تدرك أم ياسين حين حزمت حقائبها قبل أشهرعائدة إلى مسقط رأس عائلتها إدلب من  بلدة مزرعة يشوع ، أنها ستواجه ظروفاً أصعب من تلك التي واجهتها في لبنان. فها هي اليوم، تمر بظروف إنسانية صعبة للغاية. لا تخفي ل" المدن" مدى ندمها على قرار عودتها الذي فرضه  إيقاف زوجها عن العمل .

وتقول أم ياسين: "إستطعت التأقلم مع الظرف المستجد في إدلب، وإنقطاع الكهرباء وغلاء المعيشة ، لكني لم أستطع التأقلم مع صدى المعارك العسكرية. أجواء الحرب تخيم علينا، وندرك أننا لسنا في مأمن، لذا أنا مترددة في حزم حقائب النزوح مجدداً نحو مخيمات الحدود حفاظاً على أرواح أولادي الخمسة". وتضيف "لم أكن أتوقع حجم الوضع الإنساني والمعيشي والإقتصادي  الصعب في إدلب. اسعار المواد الغذائية الأساسية نار، وبالكاد نستطيع شراء الخبز والأرز طبقنا اليومي. لم نأكل  اللحم والفاكهة  منذ مدة، وما من جمعيات تساعد داخل المدينة".

وبلغ عدد النازحين من إدلب منذ بدء الهجوم البري في 24 كانون الثاني/يناير نحو 340 ألف مدني سوري، ليصل العدد الاجمالي منذ مطلع كانون الأول/ديسمبر، إلى نحو 870 ألفاً.
ويختصر إبن بلدة كفرسجنة في ريف إدلب الجنوبي  محمد صبيح وضعه بالقول: بعدما كنا نعتمد على محصول أراضينا الزراعية وما تقدمه لنا من خيرات لنعيش بكرامة في قريتنا، نزحنا لنواجه الموت البطيء ببطون  فارغة  في مخيم دير حسان القريب من الحدود التركية. والدتي تنتظر في المستشفى الميداني من يسدد تكاليف عملية برأسها أثر إصابتها قبل أيام بجلطة دماغية".

ويروي صبيح ل" المدن": "لم نعرف  كعائلة الإستقرار منذ أكثر من عام، لإني نزحت  وزوجتي وطفلتي ووالدي وأشقائي وشقيقاتي وجدي المسن إلى  سرمدا فمخيم دير حسان. دفنت تباعاً والدي  وجدي في أقل من عام في كفرسجنة بعدما  تسللنا بجثثهم تحت جنح الظلام". ويرد سبب إستقراره في خيمة: "كنا نعيش ببحبوة من خيرات ارضنا الزراعية،  لكن ظروفنا تغيرت بعد النزوح، ونواجه ظروفاً إنسانية مآىساوية لا توصف في المخيم.  البرد قارص ولا مواد تدفئة ولا أملك المال لشراء الوقود".

ويتابع أن الخدمات شبه معدومة، والمنظمات العاملة في المنطقة بالكاد تستطيع توفير الحصص الغذائية للجميع وبشكل دوري. الجوع يأكلنا بسبب غلاء الأسعار، فسعر ربطة الخبز دولار ، وأبسط طبق طعام يكلف 10 دولارغير متوفرة. ويختم: نستطيع ككبار تحمل الجوع والبرد، لكن الأطفال لا. فهل من يرأف بحالنا؟

تستضيف إدلب المدينة أكثر من مليون نسمة راهناً، ممن يعيشون بفوضى ورعب جراء نيران النظام ، وفق ما يقول الناشط والصحافي هادي العبدالله ل"المدن"، الذي يعيش فيها بعد تهجره من كفرنبل قبل بضعة أشهر. ويوضح: القصف مستمر ويستهدف الأحياء والأسواق والبشر والحجر، مخلفاً  المزيد  من النزوح نحو القرى القريبة من الحدود التركية المكتظة بالنازحين أصلاً.

الوضع الإقتصادي في إدلب منهك وعلى وشك الإنهيار، ليس فقط بسبب المعارك ، إنما لإرتفاع سعر صرف العملة الوطنية مقابل الدولار، ما يعني وفق العبدالله "إرتفاعاً  باسعار المواد الغذائية المتوفرة في الأسواق، وتراجع قدرة المواطنين الشرائية، لأن الركود أصاب المنطقة، ونسبة البطالة المرتفعة، والحضور خجول لبعض الجمعيات الإنسانية  المحلية  التي تعمل بدعم من منظمات أوروبية على التخفيف من هول المآساة".

أما بالنسبة للطبابة، فيلفت العبدالله إلى أنه "برغم تعرض عدد كبير من المستشفيات ومراكز الدفاع المدني جنوب وشرق إدلب، تتم متابعة حالات الأمراض المزمنة ومعالجة المصابين بمستشفيات المحافظة وتلك الحدودية المدعومة من منظمات غربية وأميركية، فيما الحالات الخطرة تحال إلى تركيا". وماذا عن الخدمات الأساسية؟ يجيب العبدالله: "الكهرباء كما لبنان، تتأمن بمولدات في المدينة، فيما المخيمات الجديدة محرومة منها كما المياه التي تؤمنها صهاريج".

مشهد مأساوي يخيم على إدلب التي تحولت منذ بداية الثورة إلى خزان بشري، لإستقبالها مئات الألاف من المواطنين والمعارضين والنشطاء الهاربين من مناطق النظام. ما يزيد عن ال 4 ملايين نسمة لجؤوا إلى المحافظة، وبنوا نوعاً من حياة جديدة لم يكتب لها العمر المديد، ذلك أن العمليات العسكرية التي أطلقها النظام منذ 10 أشهر وسيطرته على عدد من المناطق، فتحت الباب واسعاً لنزوح جديد نحو مصير مجهول.

ويؤكد عبدالله: "الوضع مآساوي جداً، لأن المعركة الحالية هي الأصعب والأشرس، وتخلف دماراً في البنى التحتية، وتشرد مئات ألاف المدنيين. أمست إدلب منكوبة تفوح منها رائحة الموت بالقنابل والصواريخ التي تنهال على رؤوس عُزّل يلجؤن للإختباء تحت شجر الزيتون قبل السير على طريق النزوح.

وفق العبدالله" ما يقارب المليون و700 ألف نسمة تهجروا مجدداً خلال الأشهر العشرة الأخيرة نحو الحدود التركية، وهو رقم تحدثت عنه الأمم المتحدة، ليتجدد النزوح اليوم، بمعدل 10 و30 ألف نسمة يومياً بإتجاه الحدود التركية، إلى درجة أن منطقة النزوح أمست مكتظة بالسيارات والبشر".

ما مصير النازحين من إدلب ؟ يقول العبدالله الذي يواكبهم ميدانياً: "عدد كبير نزح بإتجاه عفرين ودرع الفرات، وعدد أخر نحو الحدود التركية، حيث تم إنشاء مراكز إيواء ومخيمات على أراض غير صالحة غرقت بالسيول جراء الأمطار، فيما تأوي المساجد والمدارس بعضاً منهم، علماً أن هناك نازحين لم يصلوا أبداً لإن النظام إستهدف سياراتهم وقتلهم. كما وهناك نازحون ينامون في سياراتهم".

ويضيف العبدالله: تتقاسم العائلات النازحة الخيم في سرمدا والدانا وأطمة وغيرها من المناطق الحدودية، وبمعدل أربع عائلات في خيمة واحدة ، بعدما خرجوا من بيوتهم بثيابهم وما تيسر من أغطية فقط. ويلفت إلى أن الظروف المآساوية المخيمة على كل إدلب "تهدد بإنفجارضخم ستطال تداعياته سوريا وتركيا وكل دول العالم، في حال عدم إيجاد حل، لأن المنطقة الحدودية لم تعد تستوعب المزيد من النازحين إذا إشتدت الحملة العسكرية على إدلب". وختم بإشارته إلى أن بعض وكالات الإغاثة تعمل على تلبية الإحتياجات، ولكن الحاجة أكبر مما يتصوره العقل.