نهاية نهاية التاريخ الأوروبي؟

علي مراد
الإثنين   2019/05/27
Getty ©
منذ العام 1951، قامت الفكرة الأوروبية على مسار رسمه وزير الخارجية الفرنسية روبرت شومان. ويقوم على التالي: شراكة وتكامل اقتصادي تدريجي في قطاعات معينة، ينطلق بعدها ليشمل كل الاقتصاد. ومن ثم، ترى الدول نفسها مضطرة أن تتعاون وأن تتكامل سياسياً قبل أن تصل إلى نموذج شبيه بالولايات المتحدة الأميركية. لذلك طرح شومان بدء التكامل في قطاعي الفحم والصلب: التكامل الاقتصادي يلزم الدول بالتعاون في هذين القطاعين، سيقضي على التنافس الاقتصادي وعلى سباق التسلح، ويطوي صفحة الحروب إلى غير رجعة.

انطلق البناء الأوروبي كمسار تفاوضي بين الحكومات، ولم يكن للمواطنين أي دور يذكر. ربما كان هذا الأمر مفهوماً بالنسبة لدول خرجت للتو من الحرب العالمية الثانية، والجروح لم تندمل بعد. وحين كان الأمر يقتصر على التعاون الاقتصادي في رخاء ما بعد الحرب، لم يكترث المواطنون لعدم إشراكهم، بل وجدوا في هذه التجربة بديلاً عن ويلات الحروب ومجالاً للتعاون المشترك.

في العام 1992 ومع إتمام بناء السوق الموحدة، وانتهاء الحرب الباردة، دخلت عملية البناء الأوربي في مسار جديد: الأول، الانتقال من المجموعة الأوروبية الاقتصادية إلى الاتحاد الأوروبي كوحدة سياسية واقتصادية. والثاني، اتخاذ القرار بفتح باب الانضمام لدول أوروبا الشرقية. لقد بدل هذا التوجه وجه البناء الأوروبي، من كونه مشروع أوروبي غربي بين دول متقاربة اقتصادياً إلى حد ما، حيث تتوازن فيه الثنائية الفرنسية-الألمانية، إلى مشروع أوروبي بين دول لا تمتلك التطور الاقتصادي ذاته. كما أنه لم يعد الثقل لفرنسا وللدول اللاتينية الأخرى (إيطاليا، اسبانيا، بلجيكا والبرتغال)، ومالت الكفة بشكل نهائي لصالح ألمانيا ودول وسط وشرق القارة، منهية حصرية البناء الغربي للاتحاد.

ومع بدء مسار انضمام هذه الدول التي كانت في المعسكر الاشتراكي، أرسلت المفوضية الاوروبية أفضل خبرائها من أجل تحضير اقتصاديات هذه الدول، للدخول إلى السوق الأوروبي الموحد. المفوضية الأوروبية قدمت طروحاتها الاقتصادية على على أنها حقيقة حسابية، ولا تحتمل التأويل. و"باعت" رؤيتها الاقتصادية لهذه الدول، بصفتها علماً لا يخطئ، وبأنها محايدة أيديولوجيّاً واجتماعياً. كانوا حين يلتقون بموظفي هذه الدول يقولون لهم (طبعا مع بعض اللباقة): لا تفكّروا ولا تخافوا. نحن نمتلك الحقيقة العلمية الاقتصادية. انتم خرجتم للتو من براثن نظام خاطئ، ونحن هنا لنعلّمكم ولنخبركم ما هي الحقيقة المجردة، ولا شيء غير الحقيقة.

وبالترافق مرحلة التحضير لانضمام دول شرق ووسط القارة العشر، تم طرح مشروع طموح جداً، إلا وهو دستور الاتحاد الأوروبي للمرحلة المقبلة. في الحقيقة لم يكن الأمر كتابة دستور جديد، بل كان معاهدة دولية تحمل اسم الدستور الأوروبي (تم استعمال تعبير دستور لأوروبا وليس للاتحاد الأوروبي). وكانت النكسة الكبرى والأخطر للبناء الأوروبي، مع رفض فرنسا في نيسان 2005 لهذا المشروع وإعلان موته. لقد فضح هذا الأمر الالتباس الكبير بين الاتحاد الأوروبي والمواطنين: لم يؤخذ رأي الناس في المشروع الأوروبي إلا فيما ندر. ويوم حدث هذا الأمر، رفضت دولة مؤسسة كفرنسا هذا المشروع، الذي كان سيعطي دفعا كبيراً لأوروبا السياسية. اليسار يريد من هذه الأوروبا الليبرالية أن تكون أكثر اجتماعية، واليمين المتطرف يريد استعادة السيادة الوطنية.

في الحقيقة، في العام 2005 لم يكن أحد يتوقع هذا الرفض الفرنسي، بل كانت العيون شاخصة كلها على بريطانيا، التي لن يتم التساهل معها في ما لو رفضت المشروع (لا ننسى كذلك نتائج الانقسام الأوروبي حول حرب الخليج 2003).

اليوم حين ننظر إلى الوراء، يتبين أن الاتحاد الأوروبي، ككتلة سياسية، لم يتجاوز صدمة سقوط الدستور قبل عشر سنوات. لقد كانت الإشارة الأولى إلى تزعزع المثال الأوروبي ideal européen كنهاية سعيدة حتمية لتاريخ القارة، على نحو لم يبق لدول القارة إلا الحلم وانتظار الدخول إلى جنة الاتحاد. الفجوة كانت كبيرة. ولم يكن أحد يتوقعها. ويكفي النظر إلى تدني مستويات المشاركة في انتخابات البرلمان الأوروبي للتأكد من هذا الطلاق: الناس تلوم وتنتظر الكثير من بروكسل، لكنها تمتنع عن المشاركة في الانتخابات. ربما لشعورها أن حكومة التكنوقراط في مبنى شارلمان في بروكسل لا تستمد شرعيتها من المواطنين.

مع انكسار المثال، يبدو المسار كأنه قصة انهيار معلن: أزمة اقتصادية عالمية، أزمة مالية لليورو، اضطرابات اجتماعية داخلية، انهيار التصنيع ما خلا ألمانيا، صعود اليمين المتطرف، خوف من مشهد اللاجئين.

الموضوع ليس بالقانون أو بالاقتصاد، بل بالاحساس العام. الحقيقة الحقيقية لا قيمة لها بعد الآن: لا قيمة للحقيقة العلمية التي تؤكد أن اليورو ليس أساس الأزمة الاقتصادية، إن كانت الناس تشعر بذلك. لا قيمة للحقيقة التي تقول إن السيادة على الحدود الخارجية ومسألة الهجرة هي اختصاص داخلي للدول، وليس للاتحاد من صلاحية جدية في الأمر، طالما الناس تشعر بذلك. لا قيمة للخيارات الاقتصادية للحكومات الوطنية، طالما تشعر الناس ان مؤسسات الاتحاد مسؤولة عن أزماتها الاجتماعية.

اليوم انتهت مرحلة وبدأت اخرى. اليمين المتطرف الرافض للفكرة الأوروبية يحقق نتائج تاريخية، مطالباً باستعادة الأمم لسيادتها من مؤسسات بروكسل التكنوقراطية. قبل العام 2016 لم يفكر أحد وطوال عقود طويلة حتى بامكانية الخروج من الاتحاد. كان يبدو الانضمام وكأنه الحل النهائي للعلاقات الداخلية مع المكونات العرقية، وكذلك حلاً نهائية للعلاقات مع دول الجوار. الاتحاد الأوروبي هو نهاية تاريخ أوروبا: الداخل مولود من جديد ولا تفكير في الخروج. عندما أضيفت هذه المادة في مسودة اتفاقية الدستور ومن ثم في اتفاقية لشبونة، أريد لها أن تكون آلية نظرية لسد فراغ قانوني ليس إلا.. وتلويح ترهيبي نظري للدول المنضمة كي تجري الاصلاحات الليبرالية المطلوبة منها.

الخطورة اليوم هي في انهيار المثال الأوروبي وغياب البدائل. هذه القارة التي دخلت في مسار وحدوي بين معظم دولها، كي تنهي قرونا من الحروب الدموية، تدخل للمرة الأولى في مسار معاكس مع خروج بريطانيا ومع الأحزاب التي ترغب بتدمير الفكرة الأوروبية وقد وصلت إلى البرلمان الأوروبي.

صحيح أن الفكرة الأوروبية بنيت على أسس ليبرالية على المستوى الاقتصادي، لكنها في الوقت نفسه خلقت السوق الموحد، الذي يضمن عدم انفلات التنافس بين الأمم والذي قاد على الدوام إلى الكوارث.

الليلة، يحق للعالم كله أن يقلق من صعود اليمين المتطرف. كل الخوف أن نكون نشهد نهاية نهاية التاريخ الأوروبي.