في بعض دلالات عملية "نبع السلام" التركية

عبدالله أمين حلاق
الأحد   2019/10/13
Getty ©

مع بدء العملية العسكرية التركية في منطقة شرق الفرات، بالأهداف التي حددها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بالقول: "تطهير المنطقة من تنظيمي بي كي كي وتنظيم ي ب ك، وداعش.. وإنشاء منطقة آمنة لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم"، يبدو سيناريو عفرين ماثلاً بقوة هذه المرة أيضاً، لكن على نطاق جغرافي أوسع.

لم يكن الكلام عن العملية العسكرية جديداً، فقد سبق أن شهدت المنطقة تصعيداً إعلامياً ينذر بتحرك تركي وشيك قبل حوالي عشرة أشهر، عندما أعلن الرئيس الاميركي دونالد ترامب نيته سحب قواته من المنطقة، وبدا أن الطريق ممهدة لدخول قوات تركية كان من المحتم أن تدخل في صدام عسكري واسع مع القوات والميليشيات الكردية المتواجدة في المنطقة تلك. تراجع ترامب يومها عن قرار الانسحاب، واليوم، تدخل تركيا والفصائل السورية المعارضة المعركة في مواجهة الفصائل الكردية، من دون أن يكون هناك ما يشير إلى ان الأكراد كمكون أهلي من أبناء المنطقة، لن يكونوا هدفاً سهلاً لــ"نبع السلام". بدايات العملية العسكرية كانت تقول ذلك على الأقل.

في المواقف واللامواقف
عندما أعلن ترامب سحب قواته من سوريا في نهاية عام 2018، كان أول تعليق لسياسي سوري معروف وهو قيادي في الائتلاف الوطني قوله، إن القرار الاميركي "مربِك لنا كمعارضة، ولم تتضح مفاعيله حتى اللحظة. نحن بانتظار التطورات". ربما يكون هذا هو التصريح الأوضح الذي يعبر عن حال المعارضة السياسية السورية التي "أربكها" قرار ترامب، بحيث يبدو للمشاهد أنها كانت تسير بمسار تراكمي وسياسي "سليم" و"منطقي" قبل أن "تُربَك"، ناهيك عن أن انتظارها "التطورات" ومسار الامور لاحقاً هو اعتراف علني منها بأنها خارج اللعبة، بحيث يبدو مسارها "السياسي" مرتهناً بتغريدات سيد البيت الأبيض على تويتر.

لا غرابة في ذلك، ولا انتقاص من قيمة المعارضة، فالسوريون لن يستطيعوا مقاومة خمس أو ست دول تلعب في الساحة السورية وتسرح وتمرح فيها. وهُم، والنظام على رأسهم، خارج اللعبة وخارج دائرة القرار تماماً باستثناء قدرة النظام المستمرة على القتل والاعتقال والتنكيل بأهالي إدلب. لكن، ربما كان يلزم المعارضة السورية اعتراف علني وصريح من قبلها بكونها خارج دائرة الفعل والتأثير منذ زمن، على الأقل كنوع من "حرصها" ودأبها" المفترضَين للحفاظ على شرف الثورة التي اندلعت ذات آذار، والتفاتاً منها إلى كرامة من تدعي تمثيلهم من سوريين. هذا بدلاً من الخطابات والزجليات الرنانة عن الصمود والتصدي والثورة المستمرة والرهان على "حلفاء" يدخل أحدهم اليوم، رجب طيب أردوغان، إلى الأراضي السورية وبمساعدة ومشاركة من فصائل معارضة تبدو احتمالات التطهير والقمع الذي مورس بحق اكراد عفرين احتمالاً وارداً على يديها اليوم، وذلك في ظل دوران قسم كبير من المعارضة السورية بمؤسساتها وأشخاصها في فلك أردوغان، واستعدادهم ليكونوا المدافعين عن مشروعه. هذا الموقف المفترض بالمعارضة السورية أن تتخذه صعب طبعاً، ويحتاج قادة تاريخيين وذوي حس عالٍ بالمسؤولية واحترام الذات وغير ذلك مما يفترض أن يصاحب قضية محقة وعادلة كالقضية السورية.

استنكف الكثير من شخصيات المعارضة السورية، وخصوصاً المقيمة في كنف "بطل نبع السلام" في إسطنبول، عن التصريح المباشر حول العملية العسكرية، ليس لأنها "مربكة" هذه المرة أيضاً، وربما كانت المواقف التي ستتوالى منها في الأيام القليلة القادمة كفيلة بانقشاع غيوم الاستغراب.

على "الجبهة" الأخرى، أي في جانب نظام الأسد، يبدو الأسد مسروراً بما يحدث، إذا ما استخفّينا وسخِرنا، كما يقول المنطق والعقل، بمواقفه من التدخل الخارجي التركي في الأراضي السورية. ويبدو أردوغان وكأنه يقدم هدية ثمينة للأسد وخصوصاً بعد أن أعلن الكثير من الفصائل الكردية استعدادها لفتح حوار مع النظام السوري برعاية روسية، على خلفية العملية العسكرية التركية الحالية. المؤكد أنه لم يكن هناك قطع مع النظام السوري من قبل هذه الفصائل والميليشيات، بل غزَل مستمر، وجاءت اللحظة المناسبة لإعلان ذلك الغزل بين الطرفين بحجة عملية "نبع السلام" هذه المرة. فإذا ما أضفنا إلى ذلك، الانتهاكات الواسعة التي مارستها هذه الميليشات والقوى ضد معارضيها من عرب وكرد، وتلويح قادة الميليشيات والقوى الكردية بإطلاق سراح معتقلي داعش لديها، بات المشهد مثيراً للرعب والضحك في الآن عينه.

في دلالات العملية ذاتها
من المستغرب ألا تتدخل تركيا بهذا الشكل في سوريا. "المنطق" و"البداهة" يقولان أنها "تأخرت". سوريا بأسرها اليوم بلد مشاع، مستباح من قوى إقليمية ودولية متعددة، وتسرح وتمرح فيه مخابرات هذه الدول. اسرائيل وإيران وروسيا وقوات التحالف الدولي و.. وطبعاً الاحتلال "المحلي" ممثلاً بنظام الأسد. هل بقي أحد من دول الجوار المعنية لم يدخل ويستعرض عضلاته فوق الجثة إلا تركيا؟

تأخر الدخول التركي كثيراً، واليوم اكتملت لوحة الاحتلالات. ثمة دولة مجاورة تدخل اليوم ولها أيادٍ سورية تساعدها على تنفيذ مشروعها داخل سوريا، هي الميليشيات والفصائل العربية الموالية والدائرة في فلك أنقرة هذه المرة. اللوحة السوداء كانت ناقصة، واكتملت مع تفجر "ينبوع السلام" على يد "الجارة" الشمالية. من المبكر التكهن كيف ومتى ستنتهي هذه العملية، والمآلات والشكل الذي ستستقر عليه منطقة شرق الفرات. ربما تكون هذه العملية هي المشهد الأخير والفصل الختامي من مسلسل الحرب السورية، والذي قد ينتهي بتقاسم معلن للنفوذ وعلى الملأ وبسيطرة تركية أوسع على الأرض، وعندها ستكون سوريا بشكلها المستقبلي أرضية مناسبة لإعادة تعويم الأسد واستمراره لفترة مقبلة، وقد وضعت الحرب أوزارها معلنة سوريا بلداً محتلاً باحتلال "كوكتيل"، مزيج، ومختلط، وهذه فرادة أخرى تضاف إلى الفرادة السورية المستمرة والمعمدة بدماء السوريين دائماً، وبدماء كرد تلك المنطقة هذه المرة.