أي إدارة مدنية تريدها "تحرير الشام" في إدلب؟

عقيل حسين
الثلاثاء   2017/08/29
حسن الدغيم في مظاهرة شعبية في بلدة عينجارة (انترنت)
يُظهر الفشل الذي مني به الاجتماع الأول لـ"مبادرة الإدارة المدنية في المناطق المحررة"، والذي استضافته جامعة إدلب، في 24 آب/أغسطس، حجم التباعد بين الفعاليات والشخصيات الثورية وبين "هيئة تحرير الشام" الساعية، منذ سيطرتها شبه الكاملة على المحافظة مؤخراً، إلى إيجاد واجهة سياسية وإدارية للحكم في المناطق الخاضعة لنفوذها.

المبادرة التي من المقرر أن تواصل اجتماعاتها خلال هذا الأسبوع، وعلى الرغم من أنها جاءت بدعوة من إدارة جامعة إدلب، إلا أن ذلك لم يقنع سوى عدد محدود جداً وغير فاعل في الساحة بأنها دعوة مستقلة بالفعل، بل كانت هناك قناعة تامة، حتى قبل انعقادها، بوقوف "هيئة تحرير الشام" خلفها.

أمر لا يحمل أي مفاجأة، لا من حيث المكان ولا من حيث التوقيت أيضاً. فمثل هذا الاجتماع، الذي لم يكن الأول من نوعه خلال أقل من شهر، لم يكن ليحصل في المدينة لولا سماح "تحرير الشام" له، بل ورغبتها فيه. وأما من ناحية التوقيت، فإن ما يحسم الموقف من هذه المبادرة، هي الدعوات التي أطلقتها "الهيئة" منذ هزيمتها لـ"حركة أحرار الشام"، آخر منافسيها الأقوياء في إدلب في تموز/يوليو، لتشكيل إدارة موحدة للمناطق المحررة من قبل المؤسسات المدنية، والاتصالات التي أجرتها لتأسيس هذه الإدارة، والدعوات التي وجهتها للمشاركة فيها.

دعوات شملت عدداً من الشخصيات الثورية والناشطين، ومعظمهم من المتواجدين في تركيا، بالإضافة إلى شخصيات من "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة" و"الحكومة السورية المؤقتة" و"المجلس الإسلامي السوري"، وعدد من ممثلي المنظمات الإنسانية الفاعلة في الداخل السوري، إلى جانب خبراء تكنوقراط من الموظفين والمسؤولين المنشقين عن مؤسسات النظام الإدارية والخدمية.

وباستثناء موافقات مبدئية مشروطة، فإن هذه الدعوات قوبلت بالرفض الكامل، إذ اعتبر كثير ممن تلقوها، أن هذه الخطوة لا تعدو محاولة مكشوفة من جانب "الهيئة" لتأسيس واجهة شكلية تمارس من خلالها حكمها الخاص في هذه المناطق، كإنجاز للإمارة التي كان قد وعد بإقامتها أبو محمد الجولاني، في تسجيل له خلال لقاء مع كوادر من "جبهة النصرة" في العام 2014.

موقف لم يكن مبنياً في شكوكه على الاستنتاجات فحسب، بل وعلى تصريحات ومواقف غير رسمية، لم تتوقف عن الإدلاء بها شخصيات من داخل "الهيئة" نفسها تجاه هذا الموضوع. والأهم من بينها على الإطلاق، هي المناقشة التي جرت بين قادة في "الهيئة" وبعض مرجعياتها الشرعية، التي أكدت بوضوح، أن أي سلطة مدنية في مناطق نفوذ "هيئة تحرير الشام"، أياً كان اسمها أو شكلها، لا يجب أن تكون إلا خاضعة تماماً لـ"الهيئة"، ولن تعدو أن تكون سوى واجهة تدير من خلالها "تحرير الشام" الحكم.

لكن ومع ذلك، فإن المناقشة التي يبدو أن "هيئة تحرير الشام" قد سربت نصها مكتوباً عن عمد، كان واضحاً فيها عدم التوصل إلى رأي نهائي حول هذه المبادرة، إذ سجّلت بعض المرجعيات الدينية من داخل "الهيئة" وخارجها، تحفظات عديدة عليها، رغم أن مقدميها يؤكدون وبشكل قاطع، على أنها ستكون تحت سيطرة "الهيئة".

أبرز الاعتراضات المقدمة كانت حول شرعية وجود مثل هذه الإدارة أصلاً، سواء أكانت حكومة أم مجالس محلية، أو أياً كان اسمها، إذ رأى المعترضون "أنها تشكل في النهاية، حتى وإن كانت شكلية، انتقاصاً من سيطرة المجاهدين وتمكينهم". كما رفض بعضهم مبررات الداعين إلى هذا الشكل من السلطة، والتي ترى أنها تسهم في نزع صورة المتغلب بالقوة عن "هيئة تحرير الشام" لدى الحاضنة الشعبية من خلال اتاحتها التشاركية مع الأطراف المعارضة الأخرى، وسحب ذريعة أن هذه المناطق تخضع لحكم تنظيم مصنف دولياً على لائحة الإرهاب، بما قد يسهم في منع أو عرقلة التوافق الاقليمي والدولي المتوقع لمهاجمة إدلب.

وبحسب الوثيقة المسربة، فإن العديد من المشايخ الذين لم تُسمّهم، وجدوا أن "الإعلان الصريح عن مشروع هيئة تحرير الشام للحكم، وتنفيذ هذا المشروع عملياً، أهم من رأي الحاضنة الشعبية والموقف السياسي الخارجي"، مؤكدين "أن كسب ثقة عناصر الهيئة وكوادرها، عبر الإعلان الصريح عن هذا المشروع وتطبيقه، هو الخيار الأمثل بالنسبة لقيادتها، التي عليها أن تستعد لمواجهة حتمية مع المجتمع الدولي الذي لن تنطلِ عليه هذه المناورة، ولن يقبل بالهيئة كسلطة حاكمة ولا بأي شكل بطبيعة الحال". وتساءل هؤلاء عن المبررات التي ستقدمها قيادة "هيئة تحرير الشام" لعناصرها الذين قاتلوا الفصائل الأخرى تباعاً، تحت مبرر تواصل قيادات هذه الفصائل مع الحكومات العربية والغربية، وسعيهم لإقامة نظام مقبول من هذه "الحكومات الطاغوتية"، ويقيم علاقات سياسية معها، إذا ما كانت "الهيئة ستقوم بالأمر ذاته اليوم؟".

بل ورفض البعض من هذه المرجعيات، بحسب نص المناقشة المتداولة، مجرد القبول بتعيين "الهيئة" لشخصيات من خارج أوساطها، لا تلتزم من حيث المظهر الخارجي أو السلوك بالمعايير المعتبرة لديها، كالتدخين أو ارتداء الزي الحديث وحلق اللحية، مؤكدين أن ذلك سيوجه ضربات للثقة في الأوساط الجهادية في هذا المشروع، مطالبين بإعادة النظر في هذا الطرح بشكل يستجيب للتحفظات والملاحظات المسجلة، ويجيب عن الأسئلة المطروحة قبل مباركته.

بالنسبة إلى قيادة "هيئة تحرير الشام"، لا يمكن الاستخفاف بالطبع بهذه المواقف المتحفظة، التي تدرك مدى النفوذ والتأثير الذي يمتلكه أصحابها، ليس بين عناصر "الهيئة" وحدهم، بل ولدى القوى والتشكيلات الجهادية الأخرى الموجودة في سوريا، والتي من المهم جداً قبولها بهذا المشروع وانخراطها فيه، على الرغم من أن هذا التأثير قد انحسر نوعاً ما، خصوصاً بين الكوادر السورية في "الهيئة"، الذين يميل معظمهم، كما يبدو، إلى تنفيذ هذا المشروع، تحت شعار حماية هذه المناطق من مصير الرقة أو الموصل، واتاحة الفرصة لسكانها وللمقاتلين المتواجدين فيها من أجل التقاط الأنفاس.

وكما واجهت قيادة "تحرير الشام" التحفظات على قرار فك الارتباط بتنظيم "القاعدة"، العام الماضي، بتكثيف الدعاية لإيجابياته في المنابر الإعلامية الجهادية الموجهة للخارج، وبالدروس الشرعية المخصصة لعناصرها وجمهورها في الداخل، وهي الاستراتيجية التي يبدو أنها حققت نجاحاً مشجعاً بالنسبة لها، فإنها اليوم تكرر استخدامها أيضاً.

فعلى الصعيد الإعلامي، لم يتوقف الأمر عند تسريب هذه المناقشة حول مبادرة الإدارة المدنية للجمهور، كما سبق وأن سربت المناقشات التي رافقت قرار الانفصال عن "القاعدة"، بل عمدت اليوم، من جملة حملتها الترويجية المركزة، إلى توظيف الاتفاق الموقع أخيراً بين جماعة "أنصار الشريعة" مع "جبهة تحرير أزواد الوطنية" في مالي، للتأكيد على سلامة ما تسعى "الهيئة" إلى تطبيقه في سوريا كذلك، إذ نشر الكثير من مسؤوليها وأنصارها نص هذا الاتفاق، والمشروع الذي اقترحته قيادة الجماعة الجهادية الافريقية المرتبطة بـ"القاعدة" أيضاً على قيادة التنظيم الأم وحظي بموافقتها، مؤكدين أن ما تريده "تحرير الشام" هو تماماً ما وقعت عليه "أنصار الشريعة".

لكن لماذا تلجأ "هيئة تحرير الشام" أو أنصارها إلى تسريب مثل هذه المناقشات ومسودات المشاريع إلى العلن؟

سؤال لا تبدو الاجابة عليه معقدة، إذ من الواضح أن الهدف هو وضع الوسط الجهادي بشكل عام في صورة الخطوات التي تنوي "الهيئة" القيام بها، لضمان عدم إثارة الجدل وكسب التأييد والدعم، أو على الأقل، منع تشكل تيار مناوئ يمكن أن يؤلب الأنصار والعناصر ضدها، على غرار ما سبق وفعلت عندما قررت قيادة "جبهة النصرة" تغيير اسمها واعلان انفصالها عن تنظيم "القاعدة" العام 2016. حينها، أبلغت المعترضين على هذه الخطوة بأنها مجرد إجراء شكلي، وقامت منابر إعلامية جهادية بالترويج لذلك، وهو الأمر الذي تم تداوله على نطاق أوسع، عندما اختلف أبو محمد المقدسي، مع قيادة "الهيئة" لاحقاً، واعتبر في سلسلة من المنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي، أن قيادة "تحرير الشام" قامت بعملية خداع، حين أوهمت الجميع بأن هذه الخطوة جرت بالتنسيق مع قيادة تنظيم "القاعدة" على أنها إجراء شكلي، بينما تصرفت على نحو مختلف لاحقاً.

لكن إذا كان الأمر كذلك، فلماذا تضطر هذه القيادة إلى إحراج نفسها، مرة بتسريب ما يؤكد أن انفصالها عن تنظيم "القاعدة" مجرد إجراء شكلي، ومرة بتسريبٍ آخرَ يثبت أن ما تدعو إليه من إدارة مدنية للحكم في مناطق سيطرتها في سوريا، لن يكون سوى واجهة لها، ثم تنتظر من الآخرين الاستجابة لها؟ سؤال آخر، حتى وإن كانت الإجابة عنه تقول إن الهدف من ذلك هو الحفاظ على عناصر "الهيئة" وأنصارها وكسب تأييد المرجعيات الجهادية المؤثرة. إلا أن أطراف المعارضة وقوى الثورة الأخرى، تتصرف وكأنها غير معنية بها، فضلاً عن عدم الاقتناع بهذه الإجابة.

وهنا تبدو ردود الأفعال الواسعة والسلبية التي تم الإعلان عنها، من جانب الشخصيات التي تلقت دعوات من جانب "هيئة تحرير الشام" للحوار حول تشكيل إدارة مدنية للمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة في الشمال، تحصيل حاصل.

فقد هاجم الكثيرون هذه الدعوة بشدة، واعتبروا الاستجابة لها "خيانة للثورة، ومنح شرعية لتحرير الشام بعد كل ما قامت به بحق الثورة، وهي تبحث اليوم عن ملجأ تحمي به نفسها، وجسر تعبر فوقه نحو تحقيق مشروعها، وواجهة لممارسة سلطتها".

وحده تقريباً، الداعية والكاتب الاسلامي المعارض حسن الدغيم، أبدى موافقته المبدئية والمشروطة على قبول هذه الدعوة للحوار "من منطلق مصلحة الشعب"، قبل أن يظهر في ريف حلب الغربي، الجمعة، في مظاهرة شعبية في بلدة عينجارة، رافقه فيها قائد "حركة نور الدين زنكي". وأكدت المصادر أن دخوله إلى سوريا هو للقاء أبي محمد الجولاني، والتباحث مع قيادة "هيئة تحرير الشام" بخصوص القضايا المتعلقة بمستقبل الشمال المحرر، والإدارات المدينة والعسكرية التي تقوم "الهيئة" بإنشائها.

الشيخ الدغيم، والذي يُعتبر من أشد مناوئي "تحرير الشام"، اعتبر في تصريح له "أن البدء بتشكيل أي إدارة مدنية يحتاج لمقدمات وممهدات لنجاحها، ومن أهمها التخلي عن العقلية الحركية الضيقة التي تسوق الناس بالإيديولوجيا"، مشيراً إلى "أن الجماهير لا تُساق بالأيديولوجيا، وإنما من انبثاق المجتمع وحديثه عن نفسه، عندما يرى أنه ضمن دائرة القرار، وإن لم يجد نفسه فيها، فسيعتبر أي سلطة عليه هي سلطة اغتصاب واحتلال وفساد، تنعدم فيها الشفافية والنزاهة".

وعليه، أضاف الدغيم: "الإدارة المدنية لإدلب وما حولها، يجب أن تنطلق من مصالحة ثورية شاملة، تُرد فيها الحقوق، وتُحترم فيها النفوس المقهورة، وتُجبر فيها الخواطر المكسورة، ويعوض فيها المتضررون من الاقتتال والاحتراب، ويتنازل فيها المستعلون بإيديولوجياتهم، والتوجه للشعب والاعتذار له، عندها يرى الشعب نفسه جزءاً من القرار المدني والسياسي، فيقف في صف الإدارة ويتمسك بها"، داعياً القائمين على إطلاق مشروع الإدارة المدنية أن يكون قرارهم مبنياً على مصالحة ثورية شاملة، وأن يتوقف البغي والعدوان والاعتقالات والتضييق، وأن يتم إرسال الحكماء والعلماء والأقلام لإيجاد حل شامل للساحة، "عندها يمكن أن نقول إن هناك إرادة سياسية حقيقية للإصلاح"، بحسب الدغيم.

رؤية في العموم لا تحمل ما يمكن أن يُرفض من قبل "هيئة تحرير الشام"، ومطالب تبدو وجيهة، بل وبديهية، ستقابل بخطاب ملبٍّ ولا شك من جانب "الهيئة". هذا من حيث المبدأ، لكن عملياً، وعندما يصل الأمر إلى مرحلة الدخول في التفاصيل والترتيبات، فمما لا شك فيه، أن تباين الأهداف ووجهات النظر سيفرض نفسه، خصوصاً أن هذا التباين واسع جداً، إلى درجة يصعب معها جَسر الهوة خلال أيام أو أسابيع، في حين يشعر الجميع أن الوقت يلعب ضدهم، لا سيما "هيئة تحرير الشام" التي تنتقل اليوم وللمرة الأولى تقريباً، من موقع الجماعة المقاتلة فقط، إلى موقع الجهة المسؤولة عن تدبير شؤون أكثر من مليوني شخص يسكنون في مناطق سيطرتها.

ويبدو أن قيادة "الهيئة" قد اقتنعت أن دعواتها للحوار مع قوى الثورة والمعارضة، لا ينتظرها الكثير، خصوصاً أن الاجتماع الذي استضافته جامعة إدلب لم يكن الأول من نوعه، بل سبقته لقاءات مماثلة في المدينة، لم تنل حظاً من النجاح هي الأخرى، رغم كل محاولات "الهيئة" لإنجاحها أو تسويقها، الأمر الذي يكون قد دفع قائد "تحرير الشام" هاشم الشيخ "أبو جابر"، إلى إعلانه استعداد "الهيئة" لحل نفسها، والتعامل بإيجابية مع فكرة الحل السياسي، ولكن بشروط صارمة.

جاء ذلك خلال خطبة الجمعة التي ألقاها الشيخ في مسجد مدينة بنش في ريف إدلب، واشترط فيها أن تحل بقية الفصائل نفسها أيضاً، من أجل "مشروع جامع يوضع له برنامج يرتكز على جهة سياسية تمثل الشعب"، بعد انتقاده الشديد لـ"الهيئة العليا للمفاوضات"، التي اعتبر تمثيلها للثورة "باطلاً".

وبغض النظر عما إذا كانت تصريحات قائد "تحرير الشام" هذه، استجابة حقيقية، أما لا، للنداءات التي تطالب "الهيئة" بحماية إدلب من حرب شاملة وواسعة ضدها، من خلال حلّ نفسها، والتي كانت آخرها اقتراحات قدمتها الحكومة التركية للمعارضة السورية بهذا الخصوص، وعلى رأسها حل "هيئة تحرير الشام" وتشكيل إدارة حكم ذاتي مدنية في المحافظة، فإن تصريحات الشيخ الأخيرة، مع الدعوة السابقة للحوار التي قدمتها "تحرير الشام"، تعتبر من وجهة نظر مؤيدي "الهيئة" تنازلاً مهماً يجب على بقية الأطراف التعامل معه بإيجابية ومسؤولية. بينما تعتبر هذه الأطراف أن "تحرير الشام" قد استنفدت كل فرص التلاقي مع الثورة، وأن عليها أن تكف عن المناورات الإعلامية التي لم تعد لها أي فرصة للنجاح بعد كل ما حدث. وهو ما يتفق، وإن كان من زاوية مختلفة، مع موقف المتحفظين من المرجعيات الجهادية على مشروع "الهيئة" التكتيكي هذا، والذين يطالبونها بالإعلان صراحة عن حكومتها، بلا واجهة أو رتوش.