حلب تحت حكم المليشيات.. وبعض النازحين يعودون

خالد الخطيب
الأحد   2017/02/05
الشرطة العسكرية الروسية لا تجرؤ على الانتشار باتجاه الأحياء شرقي المدينة الشعبية (انترنت)
مرّت على سيطرة النظام وحلفائه على كامل الأحياء الشرقية من حلب، قرابة شهر ونصف الشهر، بعدما خرجت آخر الدفعات من مقاتلي المعارضة المسلحة، في 22 كانون الأول/ ديسمبر 2016. ورغم انقضاء هذه المدة، لم يتغير شيء في واقع الأحياء المدمرة، ولم يتمكن مئات آلاف المدنيين من العودة إلى منازلهم، بخلاف ما يروج له النظام.

وإلى الآن لم يوفر النظام الخدمات والمرافق العامة في الأحياء الشرقية، بعدما تعرضت لأعنف الهجمات البرية خلال الحملة العسكرية بدعم جوي روسي أواخر العام 2016. وبطبيعة الحال، كانت الأحياء الشرقية تمتلك قائمة متواضعة من المرافق الخدمية المتنوعة التي كانت تقدم خدماتها للمحاصرين، الذين لم يشكلوا سوى نسبة 15 في المئة من إجمالي عدد سكان الأحياء نفسها، قبل الحصار.

المنشآت العامة، التي دمرها قصف النظام المتواصل، تشمل مرافق صحية وتعليمية والبلدية والمخابز وشبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي. وامتدت عملية التدمير، طيلة الأعوام التي تلت دخول المعارضة المسلحة إلى الأحياء الشرقية، منذ منتصف العام 2012. الهجوم البري والجوي الأخير لروسيا ومليشيات النظام، كان كفيلاً بتدمير كل ما تبقى. وبعد اجتياح مليشيات النظام للشرقية، تعرضت تلك الأحياء لموجة سرقة ونهب طالت ما تبقى من منازلها التي سلمت من القصف، وبعضها حرق بشكل كامل، ما يعني صعوبة العيش من جديد في هذه الأحياء التي تحولت إلى ثكنات عشوائية لمقاتلي المليشيات المحلية والأجنبية، ويتطلب تأهيلها في الحدود الدنيا قدرات مالية وفنية كبيرة.

ولا يتجاوز عدد المدنيين العائدين إلى أحياء حلب الشرقية بعد هذه المدة من سيطرة النظام عليها 250 ألف مدني، من أصل 2.5 مليون على الأقل، أي ما يعادل 10 في المئة فقط من سكانها الأصليين. العدد الأكبر من العائدين، توجّه إلى الأحياء الأقل تضرراً، وهي مساكن هنانو وبستان الباشا وعين التل والصاخور وسيف الدولة وصلاح الدين والصالحين والفردوس، وبعض حارات حلب القديمة.

حي مساكن هنانو، الأقل تضرراً، كان مادة دسمة للماكينة الإعلامية للنظام، إذ أعاد تأهيل المخبز الآلي فيه، وبعض المرافق الخدمية العامة، كالمدارس والمستوصفات، للإيحاء بعودة الحياة الطبيعية إلى الأحياء الشرقية. كما جعل النظام الحي مقراً لفروع الأجهزة الأمنية، التي تولت مهمة ملاحقة المطلوبين، والتفتيش عن الأشخاص الملاحقين أمنياً، بين المدنيين العائدين إلى منازلهم شرقي حلب. وكان أكثر من 90 في المئة من المدنيين الذين عادوا إلى منازلهم في الأحياء الشرقية، هم ممن نزحوا عنها خلال فترات سابقة نحو مناطق سيطرة النظام في القسم الغربي من المدينة.

الخدمات التي حظي بها المدنيون في حي مساكن هنانو، وبعض الأحياء المجاورة في القسم الشمالي من الأحياء الشرقية، على بساطتها، لم تمتد إلى الأحياء الأخرى، الأمر الذي تسبب بخيبة أمل لدى آلاف المدنيين الذين كانوا ينوون العودة، ولكنهم فوجئوا بأن أحيائهم ما تزال تفتقر للمقومات الأساسية للعيش فيها. الخدمة الوحيدة كانت فتح الطرقات، ورفع الأنقاض والركام التي كانت تغلق العديد من الطرق الرئيسية والفرعية في الأحياء المدمرة. مئات العائلات التي نزحت نحو ريف حلب الشمالي، وريف حلب الغربي حاولت العودة إلى الأحياء الشرقية خلال الشهر الماضي، لكن الكثيرين منهم عادوا أدراجهم، بعدما واجهوا الواقع في مناطقهم.

ويعاني السكان شرقي حلب من فقدان المياه بشكل شبه كامل منذ شهر تقريباً، ويتقاسم شطرا حلب؛ الغربي والشرقي، هذه المشكلة الكبيرة. ويعود انقطاع المياه لأعطال متكررة في محطات الضخ، ومن بينها محطة ضخ سليمان الحلبي التي تعرضت إلى قصف جوي روسي مباشر أكثر من مرة خلال العملية العسكرية، كما استهدفتها المليشيات عشرات المرات خلال محاولات السيطرة عليها نهاية العام 2016. ويلعب التآكل والضرر الكبير الذي لحق بالخطوط الرئيسية القادمة نحو المدينة من الشرق والشمال الشرقي، دوراً كبيراً في عدم وصول مياه الشرب إلى حلب. شبكات المياه داخل الأحياء الشرقية تحتاج إلى ترميم كامل.

والسبب البارز وراء فقدان المياه في حلب عامة، هو انقطاعها بشكل متكرر من المصدر الرئيس لها؛ من نهر الفرات ومحطات الضخ الرئيسية؛ الخفسة والبابيري، اللتين تقعان تحت سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" في ريف حلب الشرقي، على الضفة الغربية لنهر الفرات. فالتنظيم بات يستخدم المياه القادمة إلى حلب كورقة ضغط في وجه النظام الذي يواصل عملياته العسكرية ضد التنظيم في أكثر من موقع، وبالتحديد في ريف حلب الشرقي الذي توسع فيه بشكل كبير خلال الأسابيع القليلة الماضية على حساب التنظيم.

ولا يبدو النظام في مشكلة كبيرة جراء انقطاع المياه عن حلب، ولا يهمه كثيراً معاناة أكثر من مليوني مدني يقطنون فيها، بل يتابع عملياته العسكرية ضد "داعش" والتي من المحتمل أن تأخذ مساراً آخر خلال الأيام القليلة المقبلة، باتجاه ضفاف الفرات شرقي حلب. أي التوغل في ريف منبج الجنوبي بعدما كانت العمليات العسكرية تنحصر بشكل رئيس في ريف الباب الغربي والجنوبي الغربي. ويبدو النظام غير مكترث للأمر بسبب توفر المياه الجوفية في المدينة، نظراً للهطولات المطرية الشتوية الجيدة التي تجعل من منسوب المياه مستقراً. وعلى الرغم من توافر المياه الجوفية في الآبار إلا أن تكاليف استخراجها مرتفعة، وتشكل عبئاً كبيراً على عامة الناس، إذ يتجاوز سعر 1000 لتر ماء 2000 ليرة سورية (الدولار 520 ليرة).

وتطال الأزمة أيضاً، الكهرباء التي تعتمد على المولدات الخاصة التي تتحكم فيها بشكل عام مليشيات النظام، أو عملاؤها من تجار الحرب الذين انتشروا في كامل الأحياء الشرقية. ولا يقتصر دور هؤلاء على تقديم الخدمات بأسعار مرتفعة جداً يعود ريعها إلى جيوب المتنفذين وقادة المليشيات، بل يتعدى ذلك ليصبح دورهم أبرز في العمل كمخبرين يشون بالمدنيين. وحصلت عشرات حوادث الاعتقال والاعدام الميداني لمدنيين وشى بهم مخبرون يسكنون الأحياء الشرقية ويتعاونون مع المليشيات.

وتسود في حلب بقسميها؛ الشرقي والغربي، حالة استياء عامة بين المدنيين بسبب فقدان المياه، وتحكم المليشيات في مصادر المياه الجوفية، وبأسعار مياه الشرب التي أصبح استخدامها بشكل مقنن. ويتهم الأهالي النظام باختلاق الأزمات ليغطي على حملات السرقة "التعفيش" التي مارستها المليشيات فور سيطرتها على الأحياء الشرقية. حملات السلب والنهب لم تسلم منها غالبية المنازل التي سلمت من القصف خلال فترات سابقة. وفي الحملة الأخيرة بالتحديد، المليشيات المحلية "الدفاع الوطني"، ومعظم منتسبيها من أبناء حلب، سوّقوا بضائعهم المسروقة محلياً في الأحياء الغربية. أما مليشيات أخرى، كـ"لواء الباقر" وتلك القادمة من الساحل ومن مناطق ريف حلب الجنوبي والشرقي، شحنت معظم بضائعها إلى خارج حلب، باتجاه الريف الجنوبي والجنوبي الشرقي؛ إلى بلدة السفيرة وما حولها، وإلى محافظات أخرى.

من جهة ثانية، لم تخرج المليشيات من المدينة كما يروّج النظام والشرطة العسكرية الروسية، بل ابتعدت عن قلب المدينة، والأحياء التي عادة ما تستقبل وفوداً إعلامية غربية وعربية، وتتركز فيها مشاريع إعادة الإعمار والترميم، مثل حلب القديمة ومحيط القلعة. الشرطة العسكرية الروسية لا تجرؤ على الانتشار باتجاه الأحياء شرقي المدينة الشعبية، بسبب خطر المليشيات والعصابات المسلحة التابعة للنظام. وتعرضت دورية تابعة للشرطة الروسية إلى كمين قرب دوار الحلوانية، أسفر عن خطف عناصر الدورية الثلاثة، ووجدت جثثهم في اليوم التالي، في 14 يناير/كانون الثاني 2017 مرمية قرب الدوار.

أصابع الاتهام توجهت نحو "لجان الدفاع الوطني" التابعة لمليشيات النظام، إذ تشير معظم الدلائل إلى تورط عناصر من "لواء الباقر"، الذي يضم في صفوفه مقاتلين من عشيرة البقارة وغيرها من العشائر، في العملية التي تأتي بعد أيام من مقتل أحد عناصر "لواء الباقر" على يد "الشرطة العسكرية" الروسية قرب دوار الحلوانية بسبب إشكال مروري.

ويسيطر عناصر "لواء الباقر" على أحياء الصالحين وكرم حومد والمرجة وأجزاء من أحياء الفردوس والميسر والجزماتي، ويمتد نفوذهم إلى قرى وبلدات ريف حلب الجنوبي، والجنوبي الشرقي. وشهد "لواء الباقر" تجنيد أعداد إضافية من المقاتلين في صفوفه بعدما سيطرت المليشيات على كامل الأحياء الشرقية، وحصوله على موارد مالية كبيرة جراء عمليات النهب والسلب التي قام بها عناصره في مناطق النفوذ التي تسلمها. "لواء الباقر" تبنى فعلياً المعارض السابق وأحد مشايخ البقارة نواف البشير، الذي دعم توسيع اللواء، ومن المقرر أن يكون له دور في العمليات العسكرية لاحقاً.

وتحتفظ المليشيات الإيرانية بعدد كبير من المقار في الأحياء الطرفية. وفي مساكن هنانو بالتحديد حولت المليشيات عدداً من الجوامع إلى "حسينيات"، ومن بينها جامع عروة البارقي. 

مصدر من الأحياء الشرقية، قال لـ"المدن"، إن معظم العائلات النازحة التي عادت إلى منازلها في الأحياء الشرقية وجدتها مسروقة. واحتلت المليشيات عدداً كبيراً من المنازل قالوا إنها تعود لعناصر تابعة للمعارضة المسلحة، وناشطين متعاونين معهم في أحياء بستان القصر وصلاح الدين والفردوس والمعادي وحلب القديمة. وأحرق عناصر المليشيات عشرات المنازل في الأحياء نفسها. وأضاف المصدر أن المليشيات اقتتلت في ما بينها أكثر من مرة بسبب النفوذ والسيطرة على ممتلكات ومنازل في أحياء حلب الشرقية، وأشار إلى أن قسماً كبيراً من العائلات التي عادت إلى منازلها في أحياء حلب الشرقية قادمة من الريف الذي تسيطر عليه المعارضة هم من النساء والأطفال وكبار السن. وبقي الشباب في مناطق سيطرة المعارضة وبعضهم حالفه الحظ ودخل إلى تركيا. ويعيش العائدون في ظروف إنسانية صعبة للغاية في ظل انعدام الخدمات ومصادر الرزق.

ويرغب النظام في عودة النازحين إلى حلب، وبالتحديد رؤوس الأموال التي هاجرت قبل خمس سنوات تقريباً، ويعوّل عليهم في تحريك عجلة الإنتاج والعمل على إعادة الإعمار بشكل جزئي على الأقل. ولهذا قيمة كبيرة من الناحيتين السياسية والمحلية يظهر من خلاله وكأنه قد "أعاد الأمن والأمان لثاني أكبر مدينة في سوريا، وأعاد لها الحياة وسكانها من جديد بعد أن طهرها من الإرهابيين".

رسائل النظام بما يخص العودة إلى حلب وصلت الى مسامع السوريين في الخارج أيضاَ، واستجابت لها مئات العائلات خلال كانون الثاني/يناير 2017. واستطاع النازحون الذين كانوا في تركيا من العودة إلى حلب بكل سهولة بعدما سلموا بطاقاتهم "الآفاد" التركية "الكملك"، وتم بعدها ترحيلهم إلى منطقة ريف حلب الشمالي عبر معبري باب السلامة وجرابلس، ومنها دخلوا حلب عبر مدينة عفرين التي تسيطر عليها "وحدات حماية الشعب" الكردية. وهؤلاء العائدون، بحسب ما يقول نشطاء، لم يكن لديهم أي نشاطات معارضة ضد النظام خلال السنوات الماضية. كما عادت عادئلات حلبية كانت في لبنان ومصر، وغيرها من الدول المجاورة.

وعلى الرغم من التطمينات التي تحدث عنها النظام بشأن عودة المهجرين إلى ديارهم في حلب، إلا أن أعدادهم ليست بالكبيرة، ولم تشكل 10 في المئة من إجمالي العدد الكلي الذي خرج منها منذ العام 2012 وحتى نهاية العام 2017. الخوف من غدر المليشيات والملاحقات الأمنية وعمليات السلب والنهب والتجنيد الإجباري هي من أكثر الأسباب التي تمنع مئات الآلاف من الحلبيين من العودة إلى منازلهم.