محرقة حلب

خالد الخطيب
السبت   2016/09/24
تهدُفُ "محرقة حلب" التي تقودها روسيا لإبادة وتهجير 350 ألف مدني على الأقل في الأحياء المحاصرة (انترنت)
تعيش أحياء حلب المحاصرة ليالي رُعبٍ، فارق النوم فيها عيون الناس المترقبة للغارات الوحشية الروسية، وما أن يطلع النهار، حتى تعود المقاتلات الحربية لتنشر حقدها البربري على المدينة وأهلها.

بوادر الهجوم البري

وتهدُفُ "محرقة حلب" التي تقودها روسيا إلى تهجير 350 ألف مدني على الأقل في الأحياء المحاصرة، ليسهل على النظام والمليشيات السيطرة عليها، كما جاء في بيان لوزارة دفاع النظام التي دعت المدنيين والمسلحين في حلب لتسليم أنفسهم، فـ"المعركة قد بدأت". وألقت طائرات روسية وأخرى تابعة للنظام مناشير ورقية تدعو المدنيين إلى الخروج من أحيائهم والتوجه إلى مناطق النظام، ودعت المسلحين إلى ترك أسلحتهم.

ولم تكن التطورات الأخيرة في حلب وليدة فشل الهدنة الروسية-الأميركية، فالقوات الروسية بدأت بالتحشيد منذ مطلع أيلول/سبتمبر في حلب، واستقدمت أكثر من 3500 مقاتل، بينهم ضباط وفنيون ومرتزقة. وبدأت القوات الروسية فعلياً بالانتشار مؤخراً على مختلف جبهات حلب الشمالية والجنوبية والغربية مع الاحتفاظ بقاعدتي انطلاق رئيسيتين؛ الأولى في "معامل الدفاع" جنوب شرقي المدينة، والأخرى في المنطقة الصناعية في الشيخ نجار شمالي حلب.

ودفعت مليشيات "حركة النجباء" العراقية، و"حزب الله" اللبناني، والمليشيات الأفغانية والباكستانية، بقيادة مليشيا "الحرس الثوري" الإيراني، بالمزيد من التعزيزات للسيطرة الكاملة على المدينة وإنهاء وجود المعارضة فيها. ويتجاوز قوام قوات النظام والمليشيات 10 آلاف مقاتل، زودتهم روسيا مؤخراً بمنصات صواريخ أرض-أرض متطورة، ومدفعية ثقيلة، تم نشرها في محيط الأحياء المحاصرة، خاصة في المدارس العسكرية في الراموسة، وفي مطار النيرب العسكري شرقي المدينة.

وفي سبيل الضغط على المعارضة لإجبارها على الاستسلام، من المتوقع أن يكون الهجوم الواسع لقوات النظام والمليشيات الشيعية والروسية على الأحياء الشرقية المحاصرة في حلب من ثلاثة محاور. واتضح ذلك من التمهيد الجوي والمدفعي والصاروخي، خلال الأيام الماضية، ومن خلال الهجمات الأولية التي تشهدها الجبهات هناك. والمحور الأول من الشمال قادماً من منطقة الكاستللو والملاح، والمحور الثاني من جهة الشرق قادماً من مطار النيرب، والمحور الثالث يشمل الهجوم على أحياء العامرية والسكري وتل الزرازير والشيخ سعيد وهي الجبهات الغربية التي تتم مهاجمتها انطلاقاً من منطقة الراموسة ومعمل الاسمنت.

في المقابل، ما تزال المعارضة المسلحة بمختلف مكوناتها الفصائلية تتحضر لمعركة جديدة في حلب، ورد عسكري يتناسب مع حجم الحشد المواجه وظروف الميدان التي تغيرت بشكل كلي لصالح النظام وحلفائه بعد دخول القوات الروسية وانتشارها في الميدان وبأعداد كبيرة. وبالطبع سوف يحظى الحشد العسكري الموالي للنظام وروسيا وإيران بدعم جوي روسي مضاعف عما كان عليه سابقاً نظراً لنزول القوات الروسية على الأرض وقيادتها العمليات البرية.

وتَعِدُ المعارضة بردٍّ عسكري مزلزل ومفاجئ، معتبرة أن الجولة المقبلة من المعركة سوف تكون حاسمة ودموية سيتقرر من خلالها مصير حلب. ولكن، ورغم التطمينات والبشائر التي تتحدث عنها المعارضة، لا يوجد إلى الآن أي دلالات واقعية على امكانية قلب المعادلة مجدداً لصالحها، في ظل هذا التكتل الهائل للمليشيات والعتاد الحربي للطرف المقابل. في الوقت الذي تعاني فيه المعارضة من حلفاء مترددين لم يقرروا ربما إلى الآن دعمها بأسلحة نوعية تمكنها من خلق توازن قوة جديد على الأقل.

المتحدث الرسمي باسم "حركة نور الدين الزنكي" النقيب عبدالسلام عبدالرزاق، قال لـ"المدن"، لن يستطيع النظام إعادة احتلال حلب الشرقية إلا إذا هدمها كاملة وقتل كامل شعبها الصامد، وحتى لو استخدم أسلحة نووية. وأوضح عبدالرزاق أن الفصائل المسلحة باتت تنسق وتضع الخطط لبلورة رد مناسب، فالمعارضة لن تقف مكتوفة الأيدي حيال قتل المدنيين وتدمير وحرق حلب.

وأشار النقيب عبدالسلام، إلى أن انتشار قوات روسية على الأرض في حلب وقيادتها ربما للعمليات البرية لن تكسر إرادة المعارضة ولن تغير من عزيمتها، ولن يكون مصير المرتزقة الروس بأفضل حالٍ من نظرائهم الإيرانيين والعراقيين والأفغان و"حزب الله"، الذين تكبدوا خسائر كبيرة في حلب على خلفية عدوانهم المستمر ومحاولاتهم للسيطرة عليها.


المحرقة الروسية

وتجاوز عدد القتلى في حلب 120 مدنياً معظمهم من الأطفال، وجرح المئات من المحاصرين في الأحياء الشرقية من المدينة التي تسيطر عليها المعارضة، بعدما شنّ طيران روسيا والنظام أكثر من 200 غارة جوية، الجمعة، تركزت بشكل رئيس على أحياء حلب الشرقية، وبوتيرة أقل على الضواحي الشمالية والغربية والجنوبية.



وغيّرت الغارات الجوية الروسية ملامح المدينة المحاصرة، خلال اليومين الماضيين، بعدما واصلت استهدافها للأحياء السكنية ليلاً ونهاراً. وقضت عائلات بأكملها تحت أنقاض المنازل التي دمرتها الصواريخ الروسية بعد منتصف ليل الخميس/الجمعة، وانتشلهم "فرق الدفاع المدني" جثثاً هامدة في اليوم التالي. معظم الضحايا أطفال غابت ملامحهم وتهشمت تفاصيل وجوههم الصغيرة.

وخلّف القصف الروسي مجازر مروعة في معظم الأحياء المحاصرة، وخيّم الموت على المدينة التي خلت شوارعها من المارة خوفاً من الحمم التي تلقيها الطائرات، وهي تروح وتغدو محملة بأطنان من القنابل المدمرة والمتنوعة؛ الفوسفورية والعنقودية والفراغية، وغيرها من القنابل شدييدة التدمير.

ولم تعد الملاجئ المتواضعة في امكاناتها أو الأدوار السفلية والأرضية من الأبنية الطابقية تفي بالغرض وتحمي آلاف المدنيين الخائفين، بعدما أدخل الروس قنابل جديدة إلى مجموعتهم المستخدمة لإبادة حلب. والقنابل الإرتجاجية الجديدة تُحدث ضغطاً هائلاً في المواقع المستهدفة، وتدمر ارتجاجاتها كتلاً سكنية كاملة، وتحيلها خراباً على رؤوس ساكنيها.

واستهدفت محرقة روسيا والنظام، كل أحياء حلب المحاصرة؛ الجندول والسكري وسيف الدولة والمشهد والهلك والحيدرية وقاضي عسكر والصالحين والشعار وهنانو والمعادي والميسر والأنصاري والمرجة وأطراف العامرية والشيخ سعيد وكرم النزهة وكرم الطحان والكلاسة والشيخ خضر والشيخ فارس وبستان القصر وحلب القديمة والمواصلات وطريق الباب والانذارات ومساكن هنانو والفردوس وكرم حومد وباب النيرب. حصيلة الضحايا الأكبر كانت في حي الكلاسة، الذي قتل فيه 14 مدنياً وجرح خمسون انتشلتهم "فرق الدفاع المدني" من تحت أنقاض منازلهم، بصعوبة بالغة، نظراً لكميات الركام التي أحدثها القصف على الحي.



وفي الريف الغربي لحلب، قضى 20 مدنياً على الأقل، وجرح العشرات جراء غارات روسية متتابعة على بناء سكني مؤلف من طابقين تقطن فيه خمس عائلات نازحة من منطقة الليرمون، ومن بين القتلى 11 طفلاً. وطال القصف الجوي أيضاً كفر حمرة وأسيا والملاح وحريتان وعندان وحيان في ضواحي حلب الشمالية. ولم تسلم القرى والبلدات في الريف الجنوبي من القصف الجوي الروسي، الذي تركز على الزربة وزيتان وجانبي طريق دمشق-حلب الدولي.

وشهدت أحياء حلب المحاصرة بعد منتصف ليل الجمعة/السبت، قصفاً جوياً متوصلاً كان الأعنف في أحياء المشهد والكلاسة ومحيط السكري والعامرية، وخلف عدداً كبيراً من القتلى والجرحى بقي قسم كبير منهم عالقاً تحت الأنقاض لساعات، لعدم قدرة "الدفاع المدني" على الوصول لهم، بسبب إغلاق الطرق وتراكم الأنقاض في الشوارع.

وأمام حجم الكارثة التي عاشتها الأحياء المحاصرة في حلب خلال الساعات الماضية، لم تتمكن "فرق الدفاع المدني" من أداء دورها بشكل كامل، رغم استنفار طاقتها لمساعدة مئات المدنيين العالقين تحت الأنقاض. ويعود ذلك إلى كثرة المواقع المستهدفة من قبل الطيران الذي لم يستثنِ حياً من الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة إلا وقصفه، مخلّفاً فيه مجازر مروعة، كما تسبب الاستهداف المتعمد لمراكز "الدفاع المدني" في حلب في إعاقة عمل المنظومة التي باتت هدفاً مباشراً للغارات.

وقالت مديرية "الدفاع المدني الحرة" في حلب: "القصف شمل ثلاثة من مراكزنا؛ مركز انقاذ هنانو ومركز اطفاء هنانو ومركز الأنصاري، الأمر الذي أدى إلى خروج مركزين عن الخدمة ودمار خمس آليات منها سيارتي إنقاذ وسيارتي أطفاء". وأضافت المديرية: "لم يتوانَ نظام الأسد وحلفاؤه عن استهداف طواقم الاسعاف وفرق الانقاذ، طيلة السنوات الماضية، وإننا في الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء) ندعو الأمم المتحدة ومجلس الأمن والمجتمع الدولي إلى ممارسة جهود فعالة تفضي لحماية المدنيين وطواقم الإنقاذ والإسعاف من هذا القصف الهمجي، ونستنكر هذا الصمت والتجاهل حيال الجرائم المستمرة في سوريا".

وليست هذه هي المرة الأولى التي تعيش فيها حلب هذه الأجواء الدامية، لكنها الأعنف على الإطلاق في ظل حصار مطبق، حيث لا دواء ولا مساعدات طبية متوفرة للتخفيف من حدة المأساة، ولا توجد امكانية لتحويل الجرحى والمصابين إلى مشافٍ خارجية في ظل الحصار، ما يعني أن العشرات من الأطفال الذين غصّت بهم المشافي الميدانية سينضمون لقافلة الضحايا خلال الساعات القادمة بسبب شلل القطاع الطبي وفقدانه أبسط مقومات بقائه.

وتستخدم الطائرات الروسية لقصف حلب المحاصرة، منذ ثلاثة أيام "القنابل الارتجاجية" التي تسبب هزات أرضية هائلة، وتخلّفُ دماراً واسعاً في الأحياء السكنية المكتظة بالسكان المحاصرين. وتلقي طائرات الميغ والسوخوي الروسية تلك القنابل، بشكل اعتباطي، وقصف وحشي غير تمييزي، بطريقة لم تستخدم حتى في الحروب العالمية. وتحمل كل طائرة قنبلتين اثنتين، تزن الواحدة منها طناً تقريباً. وهي قنابل روسية الصنع مخصصة لخرق التحصينات والملاجئ وإحداث دمار واسع في العمران وردمه بشكل كامل. وتتأثر بشكل كبير الأبنية المحيطة بالموقع المستهدف، خاصة تلك التي بنيتها في الأساس هشة، وهو ما حدث في حلب خلال الأيام الماضية، حيث تهدمت أبنية طابقية بشكل كامل، بعضها بشكل جزئي، على الرغم من أن القصف لم يستهدفها بشكل مباشر.