الغرب بلا منافس

بشير البكر
الإثنين   2024/03/25
يحاول الكتاب الذي يحمل عنوان "ماذا بقي من الغرب" أن يجيب على هذا السؤال، من خلال رسائل متبادلة بين مثقفين فرنسيين، المفكر ريجيس دوبريه، وصديقه استاذ العلوم السياسية والكاتب والصحافي رينو جيرار. ويجتهد الكاتبان من أجل تفكيك هذا الموضوع المعقد والمتشعب، لكن الحصيلة تبدو أقل بكثير من حجم السؤال، وهذا أمر يحسه القارئ، بمجرد أن يمسك بالكتاب الصغير الحجم، الصادر في ترجمة الباحث المغربي مراد دياني من الفرنسية إلى العربية، والصادر عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات".

ليس كتاباً، بل كراساً من القطع المتوسط في حدود 100 صفحة، يمكن للقارئ أن يفرغ منه في جلسة واحدة، لكنه عوضاً عن أن يخرج منه بخلاصات نافعة، يقف مشتتاً، عاجزًا عن تشكيل رؤية واضحة عما يحمله السؤال، ومرد ذلك إلى أمرين مهمين. الأول هو منهج الكتاب، الذي بدأ كحوار في مقهى داخل مطار بين الكاتبين، وتم استكماله من خلال رسائل مكتوبة. والأمر الثاني هو تقديم إجابات سريعة على السؤال، ما يفقد الكتاب صفة البحث العلمي الرصين، الذي يقوم على الإحاطة بعناصر الموضوع بتجرد ومن دون خلفيات واعتبارات وقتية.

لا يكفي كراس صغير للاجابة على سؤال كبير. وأول مأخذ يمكن أن يسجله القارئ هو أنه لا يجد، قبل كل شيء، تعريفا شاملا للغرب، حتى يستطيع أن يحكم على وجهتي النظر المتباعدتين بين مفكر ذي رؤية عميقة، تذهب نحو احساس عميق بإثارة اسئلة كثيرة حول معنى الغرب وتشعباته ومحتواه، وما آل إليه اليوم كمفهوم تكون منذ عدة قرون، والأدوات والآليات التي ساهمت في تشكيله وبنائه، وبين استاذ جامعي ذي رؤية مدرسية جافة وباردة تجاه مفهومه للغرب، والعالم على الضفة الأخرى، بما في ذلك الشرق، الذي يعاني من افتقار شروط تحقيق ذاته ثقافيا وسياسيا، وخاصة فيما يتعلق بآليات الحكم والحوكمة.

هناك مسافة بعيدة بين وجهتي النظر، ويبدو أن دوبريه الذي كان ينتظر الطائرة ليتوجه للصين، الذي استدرج صديقه للحوار، بينما كان ينتظر الطائرة الذاهبة إلى دمشق، ويبدو أنه أراد أن يذهب نحو أبعد من ذلك التقاطع، كون صديقه يمثل وجهة نظر أقرب إلى الوعي الدارج، بالغرب المكتفي بذاته وتاريخه، والذي يرى بقية العالم من وراء نظارات مغبشة، ولا يكلف نفسه عناء تنظيفها، كي يقرأ الواقع على ما هو عليه. ويظهر هذا عندما يتطرق لأحداث الربيع العربي، ويحكم من زاوية حادة إلى ما انتهت إليه، في كل من سوريا وليبيا ومصر واليمن وتونس.

حين يقع المرء على العنوان يتخيّل أنه سيجد محاولة للاجابة على اسئلة متعددة، حول الذي تبقى من الفكر، الموسيقى، الثقافة، العقلانية، النهضة الأوروبية، التطور العلمي، لكنه يكتشف أن الحوار منشد أكثر حول مفهوم للغرب، ليس في نهاية المطاف سوى "اسم مستعار" لحلف شمال الأطلسي حسب توصيف المترجم، نقلا عن نظرة دوبريه، وبالتالي لا تمثل العناوين الكبرى أكثر من خلفية، ومن ذلك القيم والمبادئ، التي صنعت سرّ قوّة الغرب وجاذبيته، وصموده أمام الزمن.

هناك تباين واضح بين وجهتي النظر، وبينما تبدو محاكمات دوبريه عقلانية، رصينة، تظهر أفكار جيرار على قدر غير قليل من الفوقية في النقاش، يقوم على تمييز الغرب عن غيره من العالم، يستند على اعتبار أن التفوق الذي حققه الغرب عبر حقب تاريخيه، مرده عدة مزايا خاصة يمتلكها، لم يكن في وسع منافسيه تحقيقها لعجز ذاتي في تفكيرهم وتكوينهم. وهذا حكم غير أمين، ولا يستند إلى منهج علمي في التحليل من أجل الوصول للأسباب، وتنتهي النتيجة من خلال تعميم هذه النظرة إلى العنصرية والتمييز. ويظهر في كافة الأحوال انه منهجه يقوم على التبسيط والتسرع في الحكم على التطورات، لينتهي إلى اعتبار ما يصلح للغرب، لا يصلح بالضرورة للشرق، ومن ذلك الديموقراطية، التي تظل امتيازاً غربياً، لا يمكن زراعتها في تربة العالمين العربي والإسلامي، وتبقى الدكتاتورية هي النموذج المناسب لهما، بل يجب على الغرب أن يكف عن دعم الحراك الديموقراطي، والحفاظ على الدكتاتوريات القائمة لأنها هي الأفضل، من أجل تحقيق الاستقرار والحيلولة دون حصول اضطرابات وتضرر مصالح الاقليات، كما هو الوضع في سوريا وحكم بشار الأسد، الذي يرى فيه جيرار "حامي الأقليات". 

يطرح السؤال نفسه، ويجد مشروعية في البحث عن إجابة، حسب المترجم، كون الغرب يعيش أزمة حقيقية، تتمثل في أفول عهد تفوقه وهيمنته، وبروز قوى ناشئة على الساحة العالمية. وهذا يستدعي النظر إلى الغرب كمجموعة واحدة متناسقة ومتناغمة، تتقدم وتتخلف ضمن خط واحد، ولنفس الأسباب وهذا غير دقيق. وبقدر ما هناك تشابهات، هناك تباينات. ومن جانب آخر، يبدو النموذج الغربي معطلا، لكنه ليس في حالة احتضار. ومثال ذلك ما آلت إليه الوحدة الأوروبية، التي تعد أهم انجاز اقتصادي ثقافي سياسي أوروبي، فيما بعد الحرب العالمية الثانية. يعاني من الجمود، لكنه لا يلفظ أنفاسه. ثم أن هناك أكثر من نموذج للغرب. الأميركي لا يلتقي مع الأوروبي، لجهة السياسة والاقتصاد والثقافة. صحيح أن الطرفين يتحدثان بصوت واحد داخل حلف الأطلسي، لكنهما متنافران ثقافيا. ومع ذلك يبقى ذلك بلا منافس، ليس هناك نموذج آخر، روسيا حاولت من خلال الاتحاد السوفييتي بناء نموذج مضاد، وفشلت، وانتهت إلى دولة قومية بلا مشروع، يتجاوز حدودها، الصين تطورت اقتصاديا وعسكريا، لكنها لم تقدم نموذجاً مختلفاً، ولا صلة لها بالثقافة الكونية والديموقراطية وحقوق الانسان.

الديموقراطية الغربية في مأزق، لكن روسيا والصين فشلتا في تقديم نموذج ديموقراطي مختلف، وليس لديهما ما تحاججان به الغرب، وهذا نقطة قوة للنموذج الغربي، الذي اكتشف مبكرا قيمة الحرية. حرية الاقتصاد والفكر والثقافة والانسان.