الشعار الثاني الرديف، أو المتمّم لشعار كلّن يعني كلّن، كان شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". شمولية الهتاف الأول بالشعار الأوّل، انسحبت شمولية على الهتاف الثاني، وصارت الساحة المعترضة على تداخل، منقادة إلى شموليّة شعارية من بندين، هما في الحقيقة بند واحد، لدى إدماجهما، ولدى الخروج بحصيلة من الدمج بعنوان واحد: الشعب يريد الخلاص من الجميع، ساسة ونظاماً، أي أن الشعب يريد تغييراً شاملاً يقتلع ما هو موجود، تمهيداً لبناء ما هو آت.. لكن الشمولية هذه، اصطدمت بمفارقة أصلية، أو بنقص جوهري ابتدائي. أما قوام ذلك، فهو أن "المريدين" يعرفون أنهم يريدون الخلاص، لكنهم لا يعرفون النظام الذي يريدون الخلاص منه، معرفة عميقة أكيدة، ولا يعرفون ما هو النظام الذي يريدون إنشاءه، بعد فوزهم في معركتهم التغييرية. ليس غريباً، والحال ما كان عليه، القول، إن نقص المعرفة بالشيء، الذي هو النظام والذي هو بديله، كان من شأنه أن يفضي إلى كل التخبّط الذي أصاب المحتجّين، وكان من شأنه أن يشكّل عائقاً أساسيّاً أمام انتظام صفوف المحتشدين، وأن يكون من شأنه، تالياً، التأسيس لتشرذم وافتراق تلك الصفوف. غاب الوضوح السياسي، فغاب التحلّق الممكن والضروري، حول برنامج سياسي واضح الرؤية وواضح الخطط التنفيذية.
مواقف
المواقف التي جاءت من جهة ثقافية، لم تبذل الجهد المطلوب لسدّ ثغرات عدم الوضوح السياسي، وبديلاً من تنكّب مسؤولية البحث والتدقيق في المغيّب لدى الجمهور، انخرطت أكثرية أهل الثقافة في تمجيد التلقائية الحشدية، وبرّرت في مواضع شتّى إسقاط المواضيع السياسية، وغطّت من خلال "اجتهادات" شخصانية على النقص الفادح سياسياً، الغائب عن صفوف وانشغالات حركة شعبية، تسعى إلى تغيير سياسي. أصل المساهمة الثقافية، بالوجه الذي غلب عليها، موجود لدى أصل المثقفين الوافدين من أحزاب عديدة، أي من تجارب مختلفة، لم تعرف طريقها إلى النجاح. خيبة مثقفي الحزبيّات السياسية والنظرية، صارت لدى أكثريتهم نفوراً من السياسة و"التنظير"، هذا النفور الموروث حزبيّاً، لاقته "المُدنية" التي حملتها الجمعيات الكثيرة، بأسس تأسيسها، التي في نواتها الصلبة استبعاد السياسة من قاموسها، والركون إلى جملة "المصطلحات" التي ابتدعتها "العالمية"، خاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وبعد الغرق في دوّامة البحث عن سبل جعل "مفاهيم" العولمة، مرجعية وحيدة في سياق محاولة تسيّد أحادية القطبية العالمية.
لم يقتصر الأمر على الجهة الثقافية، بل إن الجهة الحزبيّة أدلت بدلوها الانسحابي من مسؤولية تسييس الحراك الشعبي، فتواطأت معه، وبديلاً من تقدمها إلى ميدان العمل باسمها، اتخذت لها أسماء جمعياتية تشبه الجمعيات المدنية، فتقول قولها وتجاريها في أفعالها. في هذا المجال تحكمت الخيبة التجريبية بأداء الحزبية، ومثلما انسحب المثقفون من المبادرة النظرية، انسحب الحزبيون من المبادرة العملية، فلم يلعبوا دوراً متقدماً على صعيد الدعوة إلى تنظيم عملي جديد للحركة الشعبية ذات الحلّة الجديدة، ولم يفلحوا في السجال اليومي مع أداء تلك الحركة، الذي كان مضرّاً في مطارح عملية عديدة. لقد واجهت الحزبية رفض الجمعياتية لها، بالخضوع لشروط الجمعياتية، وارتضت وصف خصوم التجربة الشعبية السابقة لها، من دون التصدي لأخطاء الواصفين، ومن دون محاججتهم في مرجعيات تلك الأخطاء، التعريفية والثقافية والسياسية.
في الخلاصة، اقترب دور المثقفين والحزبيين من دور "الشريك المضارب"، فهذا الأخير له حصة من الربح، ولا علاقة له بالخسارة. فإذا علمنا أن مقدمات كثيرة كانت تنبئ بفشل نسخة الحركة الشعبية في تحقيق إنجاز لحراكها، وجب القول أن طرفي النظرية والعمل، تخلّيا عن القيام بواجب التدخل في القول وفي العمل، منعاً للخسارة، فإذا وقعت، لعبوا دور الفاعل الذي يحدّ من وطأة الخسائر.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها