هذا من جهة البطل ومعضلته، أما في حسابات التجارة والصناعة، فهناك قصة أخرى تستحق الالتفات. تمثل سلسلة جون ويك حالة فريدة (أو نادرة جداً) في عالم سلاسل أفلام السينما التجارية، فهي ملحمة تنمو في جميع جوانبها مع مرور الوقت. كلّف الفيلم الأول (2014) 20 مليون دولار، وامتد لـ101 دقيقة وحقّق 86 مليوناً على مستوى شباك التذاكر العالمي؛ فيما امتد الفيلم الثاني (2017) 122 دقيقة حاصداً 172 مليوناً في الإيرادات؛ بينما ذهب الثالث (2019) إلى 130 دقيقة، وكلّف 75 مليوناً، وحصد 328 مليوناً في شباك التذاكر، في حين بلغت موازنة الفيلم الرابع 90 مليوناً، وامتدّ لـ169 دقيقة، وبالتأكيد سيحقق أفضل إيرادات في السلسلة بأكملها (حصد أكثر من 350 مليون دولار حتى الآن).
مثل هذا "التضخّم"، المتحقق رغماً عن كلّ الاحتمالات المسبقة تقريباً، لا ينتقص من، بل يعزّز النتيجة النهائية لهذا الجزء الرابع. يمكن لمتفرّج القول أن النسخة النهائية للفيلم كان يمكن أن تأتي أقصر بـ20 أو 40 أو 60 دقيقة، لكن الحقيقة إنه في هذه المراكمة والوفرة الفائضة والذرائع المفرطة، تحديداً، يجد الفيلم جانبه المميز وعلّة وجوده بالأساس. فبعد نصفٍ أول، لا تشوبه شائبة لكنه نوعي حتى النخاع، يصل "جون ويك 4" في شوطه الثاني (المصوَّر في أكثر الأماكن الباريسية رمزية، مثل برج إيفل أو قوس النصر أو كنيسة القلب الأقدس في مونمارتر) إلى أعلى ذروة، ليس فقط في هذا الفيلم وإنما في الملحمة بأكملها.
في هذا الفصل الأخير، يواصل جون ويك مهمته لإيجاد طريقة للخروج من وضعه وهزيمة "المجلس الأعلى"، المنظمة التي تحكم عالم القتلة بما يشبه مدونة الشرف أو دستور غير مكتوب، والتي كان جون ويك أحد أعضائها السابقين المشهودين. في الأفلام السابقة، رأينا جون ويك يواجه العديد من الأعداء الأقوياء لحماية نفسه والمقرّبين منه، وقد بدأ كل هذا عندما قُتل كلبه الذي منحته إياه زوجته قبل وفاتها. وفيما يحاول جون ويك اكتشاف طريق لهزيمة نقابة الإجرام العالمي تلك، يواجه تحدياً جديداً: عدو هائل النفوذ والقدرة، يملك تحالفات عالمية قوية. يمكن لهذا العدو الجديد تحويل أصدقاء ويك القدامى إلى أعداء، والأمر الأكثر صعوبة أن لديه صلات تجعل من الصعب على ويك هزيمته.
عبر عدد قليل جداً من جُمل الحوار، وتطوير للشخصيات في حدّه الأدني، والاكتفاء بعِظام الحبكة الأساسية؛ يبدأ جون ويك رحلته عبر نيويورك وأوساكا وبرلين، ولن يتوقف حتى يصل إلى محطته الباريسية المذكورة أعلاه. سيُلاحق في جميع أنحاء العالم، وسيحصل على بعض المساعدة في بداية المشوار. ثم يتصاعد التوتر حيث يتعيّن على جون ويك مواجهة خصمه الجديد في أثناء تعامله كذلك مع تداعيات أفعاله السابقة. حرب شاملة تنشأ بين جميع القتلة الذين يحاولون كسب مكافأة مقابل رأس جون ويك، وبين الأخير الساعي للانتقام من كلّ من ظلموه.
تأثيرات ومراجع جون ويك معروفة جيداً (كوريوغرافيا أفلام بروس لي القتالية، أسلوب جون وو المشهود، سينما الأكشن في هونغ كونغ في الثمانينيات، النوار الجديد على طريقة
نيكولاس ويندنغ ريفن، ملحمة "ذا ماتريكس"، جماليات ألعاب الفيديو، والقصص المصوَّرة). وفي هذا الفيلم الرابع (وربما الأخير في السلسلة)، يأخذ المخرج تشاد ستاهلسكي هذا الخليط إلى أبعادٍ جديدة، مع مخاطرات ورهانات وطموح كبير، وتسلسلات طويلة في ملهى ليلي أو على درجٍ أو في الشارع؛ تحت الماء أو في لقطة متسلسلة لافتة تنجزها كاميرا علوية. وستكون هناك مبارزة بروح "السباغيتي ويسترن" على طريقة سيرجيو ليوني. وفي الختام، ستحضر لمسة غامرة وواضحة من الملحمية والرومانسية.
إذا كانت هذه هي بالفعل نهاية الملحمة، فإن "جون ويك 4" يختم قوس حكاية بطله بطريقة كبيرة ومميّزة، كافية لتخليد الكون الذي تصوّره وحمله كل من ستاهيلسكي وريفز في أربعة أجزاء مشهودة، بمثيولوجيا تخصّه وإرثٍ لا يُمحى.
ويبقى السؤال الكبير ما إذا كان جون ويك هذه المرة، بعد ثلاث ساعات تقريباً من القتل والتصفية، سيكون قادراً على الراحة كما تمنّى من البداية. مؤكّد يستحق التقاعد. رغم أنه من الصعب ألا نأمل في جزء خامس.
(*) يُعرض حالياً في الصالات اللبنانية.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها