لم تختبر سوريا الحديثة، منذ تحررها من الحكم العثماني، تجارب قيادية كثيرة، فقد انقضى عهد الملَكية سريعاً، مع خروج الملك فيصل من دمشق بعد الإنذار الفرنسي قبيل معركة ميسلون. فإذا ما استثنينا أولئك الذين عينهم الانتداب، وكذلك من قادوا الانقلابات العسكرية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، فإن الفترة الرئاسية التي تولى فيها القدسي الحكم أي منذ منتصف كانون الأول 1961 وحتى آذار 1963، تبدو واحدة من أصعب وأخطر الفترات الديموقراطية القليلة التي مرت على سوريا، قبل أن يبتلعها نظام "البعث"!
وقد روج كثر من هذا النظام دائماً لروايتهم عن فترة ما بعد الوحدة مع مصر، مختصرين الفعالية الشعبية السورية التي رفضت استبداد السلطة الناصرية وقمعها الشديد للحراك السياسي، بكون أفرادها زمرة انفصالية، ومع تسميتهم لانقلابهم على السلطة الديموقراطية المنتخبة على أنه ثورة، يعتبرون ضمنياً بأن الوضع قد بلغ من السوء مبلغاً، ما اضطرهم للتحرك والاستيلاء على الحكم.
لكن الحقائق التي يعرفها الجمهور بحكم التجربة، لم تأت من مراجعة الماضي وحده، بل جاءت أيضاً من سياسة الحكام الجدد الذين دمروا الحياة السياسية بقمعهم وصراعاتهم، قبل أن يلتهم الأسد الأب، الجميع، بسلطة الرجل الواحد، وما لحق ذلك من ماسأة قائمة حتى الآن، يجب التنويه دائماً بأن جزءاً منه قوامه اعتقاد مؤيدي النظام الحالي، بأن تاريخ سوريا قد بدأ بعائلة الأسد، وأنها كانت قبلهم "قاعاً صفصفاً"، بلا إنجازات أو حتى حياة.
تبعاً لهذا، سيكون إظهار التفاصيل عن الفترات السابقة مهماً للتزود بمعرفة أكبر، ومساحة لفهم الخيارات الأخرى، التي سدت الدبابات الطرق أمامها.
تدمير الحياة السياسية لم يجر فقط في سوريا، بل حصل أيضاً في كل البلدان التي تولى أمرها العسكر، وكانت لدى هؤلاء عقائد شعبوية متشابهة، وتصورات طوباوية، قصيرة النظر، وحلول فاجرة لكل شيء. ومثال ذلك ما يذكره الموقع عن أن بعثيي العراق طلبوا من رفاقهم السوريين، حال انقضاضهم على السلطة، إعدام الرئيس القدسي أسوة بما فعلوه عندما أعدموا الرئيس عبد الكريم قاسم قبل شهر في بغداد، لكن السوريين رفضوا ذلك كون السوريين "ليسوا دمويين"!
في موقع "المكتبة الرئاسية للدكتور ناظم القدسي"، ثمة جهد واضح بذلته عائلة الراحل، من أجل وضع كل ما يجب أن يعرفه الجمهور عن تاريخه، وعن مسيرته العملية، وفي سبيل توضيح تأخر ظهورها. ويذكر القائمون على المشروع أن الأمر ارتبط بصمت القدسي بعد إعلانه التقاعد عن العمل السياسي، إثر خروجه من سوريا إلى بيروت العام 1963، إلى أن أقنعه صديقه الدكتور قسطنطين زريق، نائب رئيس الجامعة الأميركية آنذاك، بتسجيل مذكراته على أشرطة الكاسيت، لكن ذلك تعثر مرات عديدة بسبب ظرف الحرب الأهلية اللبنانية وكذلك التنقل والسفر، قبل أن يكتمل في العام 1995، من خلال ثلاثين شريطاً.
غير أن العائلة ارتأت بعد وفاة القدسي في العام 1998، أن تعمل على مشروع متكامل يقوم على نشر كل ما يحتويه أرشيفه، بالإضافة إلى سيرة مختصرة، تلخص روايته، حيث تتضمن المكتبة أكثر من 5000 وثيقة وصور ومحاضر وجرائد وأرشيف جُمِعت وصُنِفت، ومُسِحت ضوئياً، ثم رُفِعت وخُزِنت ورُبِطت مع بعضها البعض.
وقد أشار القائمون على العمل الذي استغرق خمس سنوات، إلى أنهم نشروا الأرشيف وأوراقه كما وجدوها، ولم يستبعدوا أي وثيقة أو مراسلة، مع الإشارة إلى أن مراسلاته الرسمية كلها غير موجودة في هذه المكتبة، لكنها محفوظة في أرشيف الدولة. وقد حرصت العائلة على أن تقتصر مداخلتها على الكلمة الموجزة التي ثُبتت في الموقع.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها