- لنتحدث عن فيلمك الأخير"الرجل الذي قتل دون كيخوته". ظلّ الفيلم في رأسك أكثر من ربع قرن. صعوبات ومشاكل يمكن رؤيتها في الفيلم الوثائقي "تائه في لا مانشا" (2002). ثم تابعت المشروع مع ممثلين ومنتجين جدد...
* كل بضع سنوات، يُعقد مؤتمر صحافي في مهرجان "كان" السينمائي، حيث يقدم المنتجون الجدد وأنا، أعضاء فريق الممثلين الجدد. لحسن الحظ، نسيت معظم الإزعاج وأقاويل الناس عن طبيعتي الحالمة والخيالية. لكن الحقيقة أن أكثر الخياليين الذين واجهتهم، طوال تلك الفترة، هم العديد من المنتجين (الذين دخلوا معنا في بعض الأحيان) ممن أخبروني: "أنا من يستطيع أن يجعل هذا الحلم حقيقة". ذات مرة، قالت لي مُنتجة إن لديها المال الذي سرقه رئيس الوزراء التونسي خلال الربيع العربي. ثم ظهرت هذه الأموال في أحد البنوك في زيوريخ، وكان هناك الكثير من الأعمال الورقية للوصول إلى هناك. عبثٌ. ثم كان هناك رجل لديه حقوق ما نسبته 15٪ من الموارد المعدنية على هذا الكوكب. لكنه لم يرد تبديدها على الأفلام، بل آثر الاحتفاظ بها لابنته. هؤلاء هم المجانين حقاً، أنا سانشو بانثا...
إنها رحلة طويلة وصعبة وملهمة. ظل الناس يقولون لي: "لن تحصل على المال كله، كن منطقياً وافعل شيئاً آخر". لكن، بطريقة ما، لا أحب الناس المنطقيين، لا سيما أولئك الذين يقولون لي: "لا يمكنك فعل ذلك". في رأسي، فكّرت في أورسون ويلز، الذي لم يتمكن من إنهاء العديد من مشاريع أفلامه.
- بالحديث عن ويلز: على عكسه، تمكنت من إكمال فيلم "دون كيخوته". هل هذا بسبب عنادك؟
* بدا الأمر وكأنه مباراة داخلية مع أورسون ويلز. حسناً، مات ويلز قبل أن يتمكن من وضع اللمسات الأخيرة على الفيلم... بالنسبة اليّ، لحق المرض بممثلي الرئيسي. ومع ذلك، كررت القول لنفسي: "عليك أن تفعل ذلك". أصبحت الجملة شعاراً وحافزاً، ولازمتني في حياتي...
بطريقة ما، أصبح الفيلم سيرة ذاتية بعض الشيء، لكن بالطبع لم يكن هذا قط في نيّتي. الأمر الغريب هو أن هذا ينطبق على كل فيلم من أفلامي تقريباً: يصبح عالمي الخاص هو ما تدور حوله الأفلام. في "البرازيل"، دخلت في نزاع مع "يونيفرسال بيكتشرز"، التي لم تشأ عرض الفيلم في الولايات المتحدة، لذلك اضطررنا إلى عمله بأساليب حرب العصابات. دُمج الفيلم والواقع، وهذا ما حدث مرة أخرى. أقول دائماً: لقد صنع الفيلم نفسه، كنت فقط جزءاً من طاقم العمل. الأمر يعتمد على إرادتك لإنجاز المشروع الذي تعمل على إنجازه والتحايل على ما يعترضك. أثناء العمل، اقترحتُ تلك الفكرة على نفسي: أنا فقط أخدم هذه الفكرة الأكبر. وهذا هو سبب أهمية العمل بالنسبة إلي، لأن "الإيغو" الخاصة بي يمكنها الاختباء فيه. أنا غير موجود، والفيلم دائماً ملاذ جيد للاختباء.
- إلى أي مدى تغيرت القصة التي رواها الفيلم بين العامين 2000 و2017؟
* أود القول إنه أصبح فيلماً أفضل بكثير، وهذا عائد إلى المدة الطويلة التي استغرقها العمل عليه. صار أكثر تعقيداً، بمستويات عديدة للمشاهدة. اضطررت إلى إعادة اختراع القصة مراراً وتكراراً، وإلا فإن السيناريو كان سيشعرني بالملل ولم يكن ليتحرك. بعض هذه الأفكار الجديدة جاء أيضاً من الحاجة إلى جعل الفيلم أرخص. في الأصل، يُصاب "توبي" (بطل الفيلم) بضربة في رأسه ويجد نفسه في القرن السابع عشر. بسبب قرارنا بترك أحداث الفيلم لتدور في وقتنا الحاضر، لم يعد علينا القلق بشأن أعمدة الهاتف التي يمكن رؤيتها في الصورة أو أطباق الأقمار الصناعية المعلقة على المنازل. أيضاً، النسخة الحالية، معنية أكثر بالتفكير في السينما والفيلم وبما يحدث للبشر. يمكنك أن ترى كيف كان "توبي" متحمساً في بداية حياته المهنية، وبعد عشر سنوات أصبح كلبياً (cynic).
- بالطبع. بين فيلم تَخَرُّجه، وما صار يفعله اليوم، هناك فجوة كبيرة في أدائه.
* قمتُ بإخراج إعلانات تجارية بنفسي، وأعرف الكثير من الأشخاص أفسدتهم هذه النقود. في العام 2002، أنجزتُ إعلاناً تجارياً لصالح شركة "نايكي"، وحصلت على أموال مقابل عملي مدة 10 أيام، أكثر مما حصلت عليه بعد العمل عاماً كاملاً على "دون كيخوته". هذا هو خطر الإعلانات التجارية. العديد من المخرجين يحبونها لأنها تسمح لهم بالحيل البصرية، لكن عليك أن تدرك أنه في النهاية، الأمر كله يتعلَّق بتسويق مُنتَج ما. والفنان، أي فنان، ليست مهمته ترويج البضائع.
تريللر فيلم "الرجل الذي قتل دون كيخوته":
- قلت ذات مرة أنك لا توّجه/تخرج، لكنك فقط تختار الممثلين بعناية. تواضع؟ أفلامك دائماً مبهرة بصرياً..
* لهذا السبب أحتاج إلى ممثلين جيدين. نعم، بصرياً، أفلامي فوق حقيقية (hyperreal) أو: أكثر من حقيقية وأكبر من الواقع. يجب أن يكون الممثلون أقوى في الصور. أناس مثل جوناثان برايس، وهو ممثل مسرحي بارع، لطالما أخبرهم مخرجون سينمائيون آخرون بتقليص جهوده. في "البرازيل"، مع ذلك، تركته على حرّيته تماماً. أفكاري البصرية تؤيد أشكالاً مختلفة جداً من التمثيل...
آدم درايفر وجوناثان مختلفان للغاية، لكن كلاهما يتمتع بمساحة كبيرة في الفيلم. طلبت منهما أن يمنحا أنفسهما الحرية. لعبنا طوال الوقت. لم يكن عليهم أن "يمثّلوا" أمام الشاشات الزرقاء. الطاحونة، والجمجمة العملاقة كانتا هناك فعلاً. إنها عملية فيزيقية: يستجيب الممثلون لما أضعه أمامهم. عشاء لطيف أو بعض المشروبات قبل التصوير، ثم "نحن مستعدون تماماً".
- في كل أفلامك، تحصل المشاهد الخيالية في مساحة كبيرة. كانت موجودة أيضاً في عملك مع "مونتي بايثون". هل تعتبر الفيلم واقعاً مُعزَّزاً؟
* الواقع هو ما تحدّده أنت، وليس ما يقنعك به الآخرون. هكذا أرى العالم. آخرون قد يرونه بطريقة أخرى. أتذكر أنني سُئلت، كمخرج شاب، عن كيفية تصوير مَشاهدي الخيالية، فأجبت: "بالطريقة نفسها التي أصوِّر بها المَشاهد العادية والواقعية". لا أرى هذا الاختلاف بين الحقيقي والخيالي. بالنسبة إلي، هاتان قوتان تدوران حول بعضهما البعض باستمرار. العلاقة بين الاثنين هي ما يدور حوله "دون كيخوته". كما الحالم، الرائع، المجنون؛ هناك أيضاً البراغماتي في شخصية "سانشو". الأمر لا يتعلق بالشخص، بل بعلاقة الاثنين.
- للقيام بذلك، تخلط قدراً كبيراً من الغرائبية واللامعقولية؟
* بالتأكيد، هذا هو جوهر وجودنا. إذا لم تتقبّل العبثية، فستضمن لنفسك حياة بائسة. إنه تكنيك بقاء عظيم الأهمية.
- في "مونتي بايثون"، كان الجنون أيضاً طريقة لكسر قيود المجتمع. هل ما زال هذا ساري المفعول؟
* المجانين والأطفال هم الوحيدون الذين يرون العالم بعيون واضحة، لكن غالباً ما يتجاوزهم الناس ولا يعيرونهم انتباهاً. نعيش اليوم في عصر النفاق. الحقيقة لم تعد ذات قيمة. لو عاش معنا جورج أورويل الآن، فكان ليسعَد جداً. صار الأسود أبيض، والأسفل أعلى. ترامب يقلب القاموس رأساً على عقب، ويشوّه المعنى. الكلمات أصبحت أشياء مخيفة، بلا سياق، ولا تملك معنى. التواصل بين الناس قائم بالأساس حول الاتصالات في ما بينهم، ولذلك صرنا نرى فقدان الناس ثقتهم في قوة وحسّ التواصل.
كل ما قمت به هو ردّ فعل على العالم. اليوم لن أعرف من أين أبدأ. لا أعرف حقاً ما يفكر فيه الناس حالياً. يحدث الكثير من السوء لدرجة أننا وقعنا في حالة من العجز. لقد فقدنا الإيمان بأنه يمكننا تغيير أي شيء. لكن لا يمكنك الاستسلام. عليك أن تتطلع إلى الأمام. إذا لم نشعر بأننا نستطيع فعل شيء على نطاق أوسع، دعنا نركّز على عائلاتنا، على سبيل المثال.
- الآن نفدت سخريتك وروح دعابتك؟
* يصير الهجاء أو السخرية مستحيلاً عندما يصبح العالم نفسه تجسيداً لهما. إنه ليس زمناً جيداً ليعيشه الفنانون الكوميديون، عندما تصبح النكات واضحة جداً. للأسف، اليوم، تكافح الفكاهة من أجل البقاء.
- هل تشعر بالعجز؟
* إلى حد ما. أشعر بالإحباط لأنني عرفت ذات يوم كل الإجابات، واليوم لا أملك إجابة واحدة. لا أعرف ماذا أفعل أو كيف أفعل ذلك، ولست متأكداً من تأثيره أساساً. بالتأكيد عليك أن تتصرف وتفكر بشكل إيجابي ولا تستسلم. أن تكون دؤوباً، وتتقن الصبر. أن تؤمن بشيء. لم أعد أؤمن بأي شيء بعد الآن. عمري الآن 79 عاماً. ما مقدار الضجيج الذي يمكن لجدٍّ عجوز غاضب إحداثه؟ هذا هو عالم الشباب. أنا أتحول ببطء إلى كانديد (بطل فولتير في روايته الشهيرة - المحرر)، مولياً حديقتي جلّ اهتمامي.
(*) تيري جيليام (1940 - مينيسوتا، الولايات المتحدة): سينمائي ورسام وممثل بريطاني الجنسية - أميركي المولد. حقق سمعته السينمائية بفضل تجاربه البصرية الجامحة وكوميدياه الهزلية والغرائبية. في شبابه، ترك الولايات المتحدة وانتقل إلى بريطانيا، ليبدأ عمله رسّاماً للكاريكاتور، ثم عضواً في فرقة "مونتي بايثون" الكوميدية. في أواخر الستينيات، حصل على الجنسية البريطانية وتنازل عن جنسيته الأميركية في العام 2006. يقول: "دوماً أحسست نفسي بريطانياً، ولم أجد نفسي يوماً في أميركا". في 1977، انطلقت مسيرته كمخرج، بفيلم "جابرووكي". شهدت الثمانينيات أفضل أعماله، المعروفة باسم "ثلاثيه الخيال"، أفلام "قطاع طريق الزمن" و"البرازيل" و"مغامرات البارون مونكاوزن"، بين العامين 1981 و1988.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها