الغناء الصوفي ليس ظاهرةٍ جديدة، فهو يمارَس منذ القرن الثالث عشر للميلاد عبر الإنشاد الصوفي الديني في عهد السلطان بهاء الدين محمد ولد الذي هو الابن البكر لجلال الدين الرومي. ومع انّ الإنشاد التقليدي ما زال سائداً، إلّا أنّ العديد من الفنانين يغنّون الشعر الصوفي اليوم على أنغام موسيقى حديثة، أحياناً قد لا تمتّ بصلة للإنشاد التقليدي. فالسماع الشائع في أوساط الطريقة الصوفية المولوية الذي هو الإنشاد الدينيّ التقليديّ المرفق بذكر اسم الله والالتفاف حول النفس، أما اليوم فيتم دمج الموسيقى الإلكترونية أو الجاز مع الشعر الصوفيّ.
وعند الصوفيين اختلافٌ في طريقة تعبيرهم عن "العشق الإلهيّ". فيتّضح عند إبن عربي، على سبيل المثال، بأنّه يرفض ما يؤمن به بعض المتصوّفين عن الحلول والوحدة مع الله في قوله: "من قال بالحلول فدينه معلول/ وما قال بالاتحاد إلّا أهل الإلحاد".
وفي المقلب الآخر، يعبّر الحلّاج عن مفهومي الحلول والوحدة في جميع قصائده تقريباً، ففي واحدةٍ منها يقول: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا/ نحن روحان حللنا بدنا.. فإذا أبصرتَني أبصرتَ/ وإذا أبصرتَه أبصرتَنا".
وفي هذا الاختلاف والتعدّد في وسائل التعبير، أهمّيةٌ كبرى إثر التعبير عنها موسيقيّاً على الأصعدة الثقافية والفنية والاجتماعية. فكون هذا الشكل من الشعر يُغنّى مُرفقاً بأنماطٍ موسيقيةٍ مختلفةٍ، يفسح هذا المجال للعديد من الناس ذوي الأذواق الموسيقية المختلفة للاطّلاع على هذا الشعر من خلال الموسيقى. وهذا بدوره يؤدّي إلى الرغبة بالاطّلاع المعمّق على الثقافة الصوفية بشكلٍ خاص والشعر العربيّ الكلاسيكيّ بشكلٍ عامّ. فمستمع الجاز تتسنّى له معرفة ثقافة الحلّاج عبر موسيقى الفنان التونسي ظافر يوسف، ومحبّ الفنانة الفلسطينية ريم بنّا يمكنه التعرّف على ابن الفارض في ألبومها "تجلّيات الوجد والثورة"، وبالطبع مستمع الموسيقى الشرقية لديه حصته مع الفنانة السورية وعد بوحسون التي تغنّي لجلال الدين الرومي وابن عربي ورابعة العدوية. كما أنّ هناك فرقةٌ تُسمّى "فرقة إبن عربي" تنشد أشعار "الشيخ الأكبر" كما يلقب، بالطريقة الانشادية التقليدية. هذا ناهيك عن العديد من الفنّانين الذين يغنّون قصائد صوفية في بعض الأحيان كمارسيل خليفة وعابد عازرية وكاظم الساهر وفرقة "شرق".
وبالإضافة إلى الانتشار الواسع لهذه الثقافة في الوسط الفنّي، اختلاف الطرق الصوفية من الطرق المحافظة إلى الطرق المغالية في التعبير يسمح لمستمعين من معتقداتٍ متناقضةٍ بأن يطّلعوا على الفريق الآخر نظراً لترابطهما. وبالتالي، يطّلع المؤمن "المحافظ" على ثقافة المؤمن "المجدّد"، ومستمع الموسيقى الشرقية على موسيقى الجاز، والعكس صحيح في الحالتين. كما انّ الإنسان غير المؤمن سيطّلع على الثقافة الإسلامية من خلال الاستماع إلى شعرٍ فيه مبالغةً في التعبير عن العشق الإلهيّ نظراً لجمالية وسوريالية الوصف، فيخلق ذلك الوصف تقديراً لهذه الناحية من الثقافة الإسلامية عند غير المؤمنين.
وإن أردنا تحليل تأثيرات الشعر الصوفي من الناحية الجمالية، نجد أنّ من يقرأ قصيدةً صوفيةً دون علم بأنّها تتحدّث عن الله، قد يعتقد أنّ الشاعر يتغزّل بحبيبته، وهذا صحيحٌ في أعمال الحلّاج على سبيل المثال حيث يتغنّى بـ"حبيبه" من غير تسميته بشكلٍ مباشر. وهذا بدوره عامل جذبٍ للقارئ، إذ يمكنه تخيّل أنّ القصيدة هي قصيدة حبٍّ ممّا يزيد من احتمال تعلّق القارئ وبالتالي ازدياد احتمال تعمّقه بالشعر الصوفي في ما بعد.
يمكن الاستنتاج، أنّ غناء الشعر الصوفيّ يشكل فرصة لإعادة النهضة بالتراث العربيّ عند الشباب في ظلّ شبه غيابه اليوم. فتعطي جماليّة الأبيات واعتبار بعضها قصائد حبٍّ، دافعاً عند البعض للتعمّق ليس فقط بهذا النوع من الشعر، وإنّما بالشعر العربيّ الكلاسيكي عموماًّ، وتجذب القصائد الصوفية بعباراتها وتشعّبها وانتشارها الواسع المؤمن وغير المؤمن ومحبّ الموسيقى التقليدية وغير التقليدية. وعلى هذا يعتبر الغناء الصوفي وسيلةً للتعرّف على أنماطٍ موسيقيةٍ ومدارس فكرية مختلفةٍ، ويشكل الباب الأوسع الذي قد يدخل منه الشباب إلى عالم الشعر العربي الكلاسيكي بسبب الفضول في التعرّف على ما هو مرتبطٌ بالشعر الصوفيّ بعد التعلّق به.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث