الأربعاء 2016/07/13

آخر تحديث: 10:19 (بيروت)

النصر الإلهي

الأربعاء 2016/07/13
النصر الإلهي
جلوس أمي مدة شهر كامل على الكنبة بوجه كئيب أكدّ لي حجم المأساة (علي علوش)
increase حجم الخط decrease

- أبي، هل من الممكن أن تحدث الحرب مرة أخرى؟
- كلا.

حصل هذا الحديث عندما كنت طفلةً صغيرةً أسمع عن الحرب من الكبار، وحدسٌ ما في داخلي يخبرني أن الحرب ليست من الأمور التي ستتكرر في الحياة. وأن الزمن الذي ولدت فيه ليس زمن حروب، خلافاً للزمن الذي عاش فيه أهلي. كنت أظن أن الحرب انتهت ولن تعود. إنّها كذكرياتنا التي تحدث مرة واحدة.

وكانت أمي قد أقنعتني أن الطيران يحلِّق في السماء لأن الطقس جميل و"الكزدورة حلوة". كنت أحب الربيع والشمس. ولحسن حظ خدعة أمي أن الخطوط البيضاء التي تخلّفها الطائرات في السماء، والصوت الذي يشبه هدير غسالة جدتي، كانا يظهران في طقس مشمس وجميل. فأصدّق الكذبة أكثر فأكثر، وأبتسم كما لو أن المشهد اكتمل.

هذه الأكاذيب تبددت عندما سمعت أن الطائرات قصفت منزلاً في الدوير، القرية المجاورة لقريتنا في قضاء النبطية، وقتلت حيدر ورنيم، وهما صديقا ابن جيراننا، وقُتل والداهما معهما. بقيت ليلة كاملة أتخيّل المشهد وأقاوم قناعتي بأن الحرب لن تعود.

كنا نلعب التنس في الخارج مع الأصدقاء. نضحك ونتهكم بالقول: "أنظروا إلى أم كامل"، إنها تراقبنا، لا تعبسوا. وقد كنا في اليوم السابق تناولنا البقلاوة من حواجز أقيمت على الطرقات فرحاً بأسر جنديين إسرائيليين. وكنت قد سمعت توقع أبي أن حرباً ستحصل ولن تكون قصيرة.

بعد القصف المستمر على العديد من القرى بدأ الجميع يصاب بالهستيريا. توحدت مشاعرنا وأصبحنا كلنا خائفين. لا أعلم لماذا قررت أمي اصطحابنا إلى منزل ابنة خالتها للنوم عندها، علماً أن المنزل لا يبعد عنا سوى بضعة أمتار. ليلتان أمضيناهما هناك بلا نوم وعلى ضوء القداحة كي لا يرانا الطيران فيقرر إنهاء حياتنا، حتى إننا جرّبنا النوم في مستودع اجتمع فيه كل أهالي القرية. التنقل من منزل إلى آخر في الحي الواحد كان يبعث الوهم بالأمان فقط، لأن لا تفسير منطقياً لكل ما كان يحصل.

لم توِّلد الحرب خوفاً أو نزوحاً فقط، كما اعتقدت في حينها. فأبي وأمي اللذان لم يمارسا الطقوس الدينية من قبل، حملا القرآن في طريق رحيلنا من القرية، وقد حملتُ واحداً أيضاً كنت أقبّله أكثر مما أقرأ فيه. ثم أنظر إلى الدمار من حولي وأخبر نفسي أن شيئاً لن يحصل لنا، لن نموت، وأن أمي الآن تحبنا أكثر من ذي قبل.

بدأت الحرب تصبح أكثر واقعية من خلال شاشة التلفزيون. منظر المرأة التي تبكي وتشرح كيف أنها استطاعت انقاذ ابنها حسن، لكنها عجزت عن حماية زينب حتى ماتت، لا يُمكن أن يُنسى. بكاؤها أشعرني بأني أكبر بعشرين سنة وأني بتُّ أعي الموت والعجز والضعف وكل المآسي التي يمكن أن تحيط بالناس. جلوس أمي مدة شهر كامل على الكنبة بوجه كئيب أكدّ لي حجم المأساة. وصراخها وبكاؤها بعد معرفتها بموت أقارب لها في مجزرة حصلت في ضيعتنا أخرسنا جميعاً. أشلاء مايا وغنى كانت تُعرض على التلفزيون، في حين كنت أسترجع صوراً لهما، وهما تضحكان وترميان عليّ السلام وتسألاني "كيفك؟". بكينا كثيراً، وقلنا لو أنهم تركوا منزلهم. لكنّ شيئاً لن ينفع بعد موتهم. ما علينا سوى تمضية الوقت وانتظار انتهاء اللعنة بأقل الخسائر الممكنة.

لم أفهم معنى النصر الإلهي منذ عشر سنوات. فهمت أمراً واحداً فقط، أن لي أحبة وأهلاً وأخوة لا أرغب في خسارتهم لأي سبب. لي منزل وشارع محتشد بالأصدقاء ينتظراني، وحياة طويلة. كنت كلّما سمعت كلمة النصر الإلهي سألت "لِمَ لم ينصر الإله أم زينب وحرق قلبها هكذا، إن كان في مقدوره رد الضرر عن ابنتها؟".

في كل مرة نحكي فيها عن الحرب نحكي كأنها المرة الأولى التي نسترجع فيها حياتنا التي تهددت طوال شهر كامل. نضحك، نحزن ونخاف. فحرب تموز كانت الحدث الأول الذي بدّد الحياة الوردية التي كانت تحتويني أنا ومخاوفي. ومنها انطلقت نحو واقعي وواقعنا جميعاً.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها