الجمعة 2016/04/29

آخر تحديث: 08:03 (بيروت)

يوم القيامة في النيبال

الجمعة 2016/04/29
يوم القيامة في النيبال
نيباليون يحيون الذكرى السنوية الأولى للزلزال (Getty)
increase حجم الخط decrease
فوق جبل مرتفع قبالة جبال الهيملايا، وفي لحظة تأمل صباحية، بدأ الكابوس عندما سمعنا صوتاً قوياً. وفي أقل من ثانية شعرنا بأن الأرض تهتز من دون أن نحس بأقدامنا التي ترتجف خوفاً. وأول ما خطر في ذهني، كان "هل أخبر أمي وأبي بما يجري؟ لكنه زلزال سيعرفون حتماً". صرخت بصوت مرتفع سرعان ما انحبس بعد جفاف حلقي، وحين قالت لي صديقة، أمسكت بيدي: "ما تخافي".

على يميني مسنّ نيبالي، يجلس أرضاً ويتأمل الجبال المواجهة لنا يمسك بيده اليمنى تراباً، ثم ينثره ببطء شديد. يتأمل المدى تارةً والتراب تارة أخرى. يغمض عينيه ويفتحهما مبتسماً. لم أفهم شيئاً مما يدور في ذهنه، لكنه، كما بدا واضحاً، كان يرى خيراً، في ما حصل، من دون خوف ولو ضئيل، إذ إنه لم يكلف نفسه مشقة التحرك من مكانه.

في المقدمة، كان هناك مصور نيبالي يصرخ "انزلوا". خفت، بسبب ردة فعله، أن ألتفت خلفي، وتخيّلت أن صخرة كبيرة تتدحرج صوبنا سوف تقتلنا جميعاً. في الجهة الأخرى، هناك امرأة نيبالية لم يثنها الزلزال عن ضرورة صراخها على أطفال استغلوا اهتزاز الأرض للعبث بصيصانها.

الزلزال كان لحظات قليلة لم تصل إلى دقيقتين، لكنه بدا لي كأنه دهر. وهو انتهى، عندما انتهت الدقيقة الواحدة وأربعون ثانية، من دون أن تتفتت أجسادنا تحت الصخرة، التي لم يكن لها وجود سوى في مخيلتي. ومن دون أن تنشق الأرض وتبتلعنا كما كنت أنتظر. ثم أننا توقعنا، لمعرفتنا بذلك، أن هناك هزات ارتدادية لن تكون خفيفة أبداً، وأن أقصى ما يمكننا فعله هو الإلتصاق ببعضنا وشبك الآيادي، وإغماض أعيننا بهدف الشعور براحة نفسية، يمكن لها أن تبتلع شيئاً من خوفنا.

دقائق قليلة كانت كافية لتنهي حياة سبعة آلاف إنسان، ولتدمر مدينة أقل ما يقال فيها إنها ساحرة. كنا أربعة لبنانيين ذهبنا إلى تلك البلاد لتصوير طقوس قطف العسل من جبال هي الأعلى في العالم. عشنا في قرية بعيدة مع سكان خارج حدود الزمن الذي نعرفه. نيباليون يمشون ساعات ليصلوا إلى صيدلية أو دكان، يربّون المواشي أمام بيوتهم ويطحنون الأرز عبر ماكينة خشبية. أطفال يمشون ساعتين للوصول إلى مدارسهم. وهم يتنشقون هواءً لم يخترقه دخان سيارة أو مصنع أو حتى دراجة نارية. وقد تآلفوا مع الطبيعة وأصبحت جزءاً منهم. وعندما سألناهم إن كان قدومنا مصدر شؤم بالنسبة إليهم، قالوا إن هذا حكم الطبيعة عليهم وهم راضون، ولربما كان خيراً بعد ذلك.

كنت أحلم بالسفر يومياً، لكن حلمي كان ينتهي في المطار أو في الطريق إليه. لكن حلمي، هذه المرة، تحقق أخيراً، فسافرت إلى أكثر البلاد جمالاً. وما إن وصلت إليها حتى رأيت مجموعة جبال متلاصقة، تفصل بينها طرق ضيقة جداً، وهي تجمع مشاهد طبيعة الهند وطرق الريف المكسيكي الذي نراه في المسلسلات. ومن الطائرة رأيت الناس داخل بيوتهم وشعرت أنني في حلم، كان قد بدأ يكتمل.

أن أجيء من بلد يضم ديانات متعددة، يعني أن أستمع، عند عودتي إليه، إلى عبارات مثل "ماذا أكلتي؟ كيف يتعاملون؟ ماذا يلبسون؟". وأن أرجع، من رحلة انتهت بزلزال كارثي، يعني أن أكون مضطرة إلى الاجابة على "شو حسيتي؟" مئة مرة.

في النيبال لا يأكلون لحماً حلالاً، ولا مشكلة عند المرأة بكشف صدرها أمام الرجال من أجل إرضاع ابنها، من دون أن يلتفت إليها أحد. هناك لا حلال ولا حراماً. والنساء يقدن دراجاتهن النارية في المدينة منتعلات الكعب من دون أن يكن محط دهشة واستغراب. وفي القرى البعيدة النساء يحملن جرار الغاز مسافات طويلة، وأخريات يملكن حانات لبيع الكحول، يستقبلن فيها الأصدقاء ويستمتعن بأشعة الشمس من دون خوف. أما عن شعوري فقد كان الوضع أشبه بمتخيّل يوم القيامة، الذي لم نعشه بعد.

بعد مرور سنة، على الرحلة والزلزال، أتذكر السحر كله. الفتاة التي تمشي تحت المظلة منتعلة حذاء أبيها. تلاميذ المدارس الذين يقفون في الدور من أجل شراء طعامهم. الموسيقى الجميلة والأثواب الحمراء. وجوه الناس المبتسمة في كتماندو رغم سقوط منازلهم أرضاً. هكذا، أشعر بسعادة وجود مكان ما في العالم يعيش بتآلف تام مع الطبيعة من دون حدود مرضية. وحين أفكر، أعرف أنني لست خائفة من كوارث أخرى، إنما من تأثيرها على مجتمع يرتبط سحره بكونه خارج هذا الزمن المتعفن. وهو خوف أيضاً من استغلال أصحاب السلطة والمال، العالميين، الكوارث لتحويل البلاد إلى بلاد استهلاكية مقابل دعمها. فلو كان بمقدور الطبيعة مبادلتهم الحب لما قابلتهم بأي مصائب.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها