الجمعة 2015/12/25

آخر تحديث: 11:01 (بيروت)

رسائل إلى بابا نويل

الجمعة 2015/12/25
رسائل إلى بابا نويل
اجتاحتنا الرغبة بامتلاك الدهشة وأن نعيش هذه الكذبة الجميلة (Getty)
increase حجم الخط decrease
في الأفلام كانت الشجرة والمدفأة ورسائل الأطفال والثلج مشهداً مغرياً. حتى اللحظات التي يسودها صمت العالم وسط ضحكة بابا نويل وجرسه، كانت جزءاً من مشهد مثالي، يحلم به كل أطفال العالم من وراء الشاشات. لكن في الحي الذي كنت أعيش، كان الأطفال يعرفون بأن هذا الرجل السمين الذي يُدعى بابا نويل لا يسبح في السماء، ولا يجر عربة غزلان، ولا يقرأ رسائل لم تكتب، وإن كتبت فهي حتماً لن تصل إليه.


***

وحده صديقي البيروتي، الذي صودف وجوده في القرية في ليلة الميلاد، وكانت ليلة السبت، ابتسم مرة وصرخ: "وصلتني هدية بابا نويل"، الذي لم يره عملياً، لكنه احتضن سيارته الإلكترونية، ثم أخبرنا كيف تواصل معه، وقد كان فرحاً ومندهشاً إلى درجة تساوي العالم كله. لقد صدق الكذبة الجميلة، وقد نجح والداه في إدهاشه.

لا أنكر أننا يومها حسدناه. وإلى جانب أمنيتنا بمراسلة الرجل الأحمر رغبنا أيضاً بتحدث الفرنسية كالفتى المديني هذا، الذي يأتي من بيروت ويتلو على مسامعنا أخبار مدرسته، وجمال مكتبات المدينة وألعابها المختلفة. اجتاحتنا الرغبة بامتلاك الدهشة، وأن نعيش هذه الكذبة الجميلة، دهشة يُخطط لها أهلنا وتنجح إلى حد تصديقنا لأسبابها، كما فعل صديقنا البيروتي. فلو نجحت خطة أمي وأبي يوماً، لكانت أسباب الفرح ستذهب أبعد من الهدية. "لقد نسي أهلي قسط المدرسة، وطبخة الغد، وفاتورة الكهرباء، وشغب البارحة، والعلامات المتدنية، وتفرغوا فقط لدعوة بابا نويل لإضحاكِ، أو اصطحابي إلى عالم الأفلام الخيالي. يا للحظ، انني بطلة هذه الحياة ليوم واحد"، كما كنت سأخبر نفسي.

في الواقع وبعيداً عن الخيال والتمني، لا يعلم بابا نويل أن شكله غليظ بالنسبة لبعضنا، أو بالنسبة لي على الأقل. وهو، القروي الممل ومخيّب الآمال في غياب الشبه بينه وبين السينما، لا يعلم أيضاً أنني لا أتذكر من هداياه سوى لعبتين اخترتهما بنفسي، الأولى لعبة صيد السمك البلاستيكية والتي اختفت كل أسماكها بعد شهر، والثانية علبة الخرز الملونة، التي صنعت منها أساور وعقوداً.

***

في ليلة الميلاد هذه السنة، وبعد تعالي أصوات الأجراس والزمامير، نفكر حتماً بمن ابتدع فكرة بابا نويل، الشخصية التي مهما ساهمت في خلق أجواء من الفرح، وصنع الابتسامات على وجوه الأطفال، ستبقى شكلاً من أشكال الظلم، وسبباً لحقد الكثيرين على أقدارهم وعلى الآخرين. فهي كما كل مصادر الفرح في الحياة لا يمكننا الحصول على منافعها من دون مقابل.

ونحن صرنا نعرف أن ما من شيء وجد هكذا من دون وقوف الماديات وراءه، وما من حقيقة وردية. وبأن التجار اليوم حيث نعيش أقوى من أي وقت مضى، ومن أي شيء، وبأن أفراحنا ملكهم. فإذا صدق الفقراء الصغار يوماً بأن هناك عربة وغزلاناً وأن بابا نويل عجوز كبير لا يموت، فهم لن يصدقوا بأن هداياه مجانية، فهو لا يبدو الا صديق الأغنياء. ففي هذه الليلة أبواب تدق فتمتلأ بيوتها بكل أسباب الفرح، وأخرى تبقى مغلقة ينام خلفها أطفال جياع، يُعد موتهم من مسلمات الحرب والتضامن معهم تكفيراً غير مرحب به. أطفال هربوا من تحت القصف العشوائي لأن أحدهم تمسك بأسباب الحياة ومعانيها، ورأوا جثثاً ذائبة، فأصبحوا أكبر سناً من سانتا، ببطون نحيلة، وأرواح لم تمت بعد.

***

أفكر أن الطائرة والسيارة الكلاسيكية، وموتي قبل أخي الذي يخاف من سانتا مثلي عندما كنت في سنه، أمنيات لن يتحكم بها رجل ملتحٍ، أحببته مرة فقط، حين ارتدت ثيابه ولحيته أمي، ووزعت الألعاب على أولاد الحي. أحببت الفكرة لأني كنت ابنة بابا نويل المرأة، مرة على الأقل.

لكن حقاً هل في وسع بابا نويل أن يمحو ألوان الدماء التي استقرت في ذاكرة أولاد الحرب، هل سيكون امرأةً ذات مرة ويكسر القاعدة التي تؤكد بأن الرجال وحدهم أقوياء إلى درجة إحداث المعجزات، كما في شخوص الدين، فأستطيع حينها أن أقول إن أمي كانت يوماً "ماما نويل" جميلة وغير مخيفة، وهل في مقدوره اصطحاب كل الهالكين في هذه الحياة إلى سمائه المليئة بالغزلان؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها