السبت 2016/07/09

آخر تحديث: 09:19 (بيروت)

أكراد سوريا يُقررون نسبتهم

السبت 2016/07/09
increase حجم الخط decrease
تحت حكم نظام الأسد (الأب والابن)، كان الأكراد يُطالبون بحقوقهم الوطنية المشروعة، كمنح الجنسية للمحرومين منها في الإحصاء الإشكالي الذي جرى العام 1962، والسماح لهم بممارسة حقوقهم الثقافية، واستخدام لغتهم، وضمان تمثيلهم السياسي، ورفع المظالم التمييزية التي مورست بحقهم لعقود. وكانت المعارضات السورية، يسارية ويمينية، تؤيد مطالبهم وتعتبرها جزءاً من مطالب السوريين. وبطبيعة الحال لم يتجاوب نظام الأسد (الأب والابن) مع هذه المساعي، واستخدم في الكثير من الحالات العنف والقمع لوأد مطالبهم.

مع انطلاق الثورة تبدّلت أولويات الأكراد السوريين، وصاروا يُطالبون بحقوق قومية، واعتراف دستوري بهم كـ"ثاني" أكبر قومية في سوريا، وشددوا على أن لهم حقوقاً خاصة وتفضيلية، وصارت هذه الأولويات بالنسبة لبعض القوى السياسية الكردية شرطاً غير مُعلن لمواصلة دعم الثورة السورية والمعارضة. واستغل أكبر الأحزاب الكردية، الظرف، ليُشكّل ميليشيات عسكرية لتحقيق هذه الأولويات بحال لم تنفع الضغوط والمساومات في تحقيقها.

بعد خمس سنوات من انطلاق الثورة، صارت مطالب هذه القوى السياسية الكردية ومؤيديها مختلفة جذرياً، وتراوحت بين حكم ذاتي وفيدرالية قومية وأقاليم مستقلة، وتغلّبت الطموحات القومية على الوطنية، وقلّت القواسم المشتركة بينهم وبين كل السوريين على اختلاف قومياتهم ومِلَلهم.

قبل نحو أسبوع، قال المبعوث الأممي، ستيفان دي مستورا، إن نسبة الأكراد لا تقل عن خمسة في المئة في السوريين. وسرعان ما أثارت تصريحاته استياءً لدى أكراد سوريا، وشنّوا - أفراداً وجماعات - حملة قاسية على الرجل يتهمونه فيها بالانحياز والتآمر والخيانة والتقزيم، وراح الكثير منهم يدلون بدلوهم حول نسبة الأكراد في سوريا لدرجة قول البعض إن عددهم يقارب ربع السكان.

قال قياديون أكراد إن المجلس الوطني الكردي قدّم للأمم المتحدة العام 2014 وثيقة تؤكد أن عدد الأكراد في سورية هو أربعة ملايين (16%)، من دون أن يوضحوا مصادر نسبتهم المُفترضة هذه. ووجد كثير من الناشطين الأكراد والمثقفين الفرصة مواتية للترويج لنسب تُعجبهم أو يرونها قريبة من الواقع من وجهة نظرهم، ومسك بعضهم شاربيه وقال إنه متأكد بأنهم بين 20 و25% من تعداد السوريين.

عملياً، من المستحيل الوصول إلى رقم صحيح ودقيق لنسبة الأكراد في سوريا. فلا الأكراد قادرون على ذلك ولا غيرهم، سواء من المعارضة أم النظام، لعدم إجراء أي إحصاء لهم على الإطلاق، ولأن السجلات الرسمية السورية لا تُشير إلى الأصل الإثني للمواطن، لصعوبة معرفة من حُرم من حق الجنسية فعلاً، ومن أتى لسورية مؤخراً، وأيضاً لعدم وجود الأكراد بشكل تجمع يمكن تقدير عدده، ولتداخل مفهوم (الأصل الكردي)، خاصة وأن قسماً من الأكراد (القدماء) انتشر في سوريا واندمج مع العرب بطريقة يصعب تمييزها، ونسي لغته الأم وحتى التقاليد والعادات، وذاب في المجتمعات الدمشقية والحلبية والحمصية وغيرها، بل ويمكن الجزم بأنهم "تعرّبوا".

الأكراد أنفسهم وقعوا في تناقضات تقدير نسبتهم. ففي العام 1989 قدّرت مراكز بريطانية عدد المواطنين الأكراد في سوريا بنحو 600 ألف كردي، وفي العام 2007 قدّرت السلطات السورية عددهم بمليون نسمة. ورفض الأكراد هذه التقديرات وقالوا إن عددهم مليونان. وفي العام 2010 قدّرت مراكز أبحاث كردية عددهم بين 2.5 إلى 3 ملايين شخص (بين 10 و12%)، أي زاد عددهم بين نصف المليون، والمليون، خلال ثلاث سنوات(!)، وفي الفترة نفسها، قدّرتهم مراكز أبحاث سورية مقرّبة من المعارضة بنحو المليونين.

تُضاف إلى هذه النسبة أولئك المحرومين من الجنسية، إذ يقول الأكراد إن الكثير منهم حُرم من الجنسية خلال إحصاء 1962 سيء الذكر، ولا يُعرف إلا الله كم هو عدد هؤلاء. فالنظام السوري الذي حاول "رشوة" الأكراد، مطلع الثورة، ووعدهم بمنحهم الجنسية، قدّر عددهم بنحو 30 ألف نسمة (وسائل إعلام النظام)، فيما اعترض الأكراد وقدّرت بعض الأوساط الكردية عددهم بنحو 250 ألف نسمة. وبعد الثورة راحت بعض الأحزاب الكردية تقول إن المحرومين من الجنسية باتوا أكثر من نصف مليون كردي، أي بزيادة ربع مليون كردي خلال سنة أو سنتين(!).

أدخل بعض الساسة الأكراد أتباعهم في متاهات وأنفاق مُظلمة، لا تفيد سوى المتعصبين وأمراء الحروب، لأن مسألة تحديد نسب كل قومية من السوريين تُعتبر أمراً ثانوياً وهامشياً (بل وخطيراً) فيما لو كان همّ السوريين الوصول لدولة ديموقراطية لا طائفية، دولة المواطنة لا دولة المحاصصة، دولة القانون والحقوق والواجبات، ولن تفيد هذه المباريات العددية سوى الراغبين في تحويل الدولة المُرتقبة إلى دولة محاصصة دينية وطائفية وقومية لا تستند لمعايير المواطنة والعيش المشترك الدائم والراسخ.

من حق كافة القوميات السورية (أكراداً وغير أكراد) أن تكون لهم خصوصية في إطار وحدة سوريا، ودستوراً يعترف بهم كجزء لا يتجزأ من الشعب السوري، وعدا ذلك لا حقوق تمييزية لأحد، ولا المحاصصة ولا جود لأفضليات من أي نوع. ودون هذا لن تكون سوريا المقبلة إلا دويلات طائفية تستبدل الانتماء الوطني بانتماءات بدائية، وتستعيض عن مفهوم الأمة بمفهوم العشيرة، ومفهوم الوطن بمفهوم الحارات، وعندها ستجد الدول الكبرى مبرراتها لتبقى عقوداً طويلة تتحكم في مصائر السوريين بكل قومياتهم وطوائفهم.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب