الخميس 2016/05/26

آخر تحديث: 15:09 (بيروت)

القاتل المتسلسل

الخميس 2016/05/26
increase حجم الخط decrease

ضرب الإرهاب تجمعات بشرية في مدينتين على الساحل السوري، فسُفِكت الدماء، وقُتل بعشوائية الكثير من المدنيين، لا أحد يعرف إن كانوا مع النظام أم ضده، ولا أحد يعرف انتماءاتهم الجغرافية والدينية والإيديولوجية، ووفق هذا التوصيف فإن الحدث هو جريمة من سلسلة طويلة جداً من جرائم الحرب المرتكبة في سورية خلال خمس سنوات.

وزّع النظام السوري الاتهامات يمُنة ويسرة، فقال تارة إن فصائل المعارضة الإسلامية هي من ارتكبت الجريمة، وتارة إن التنظيمات الإرهابية هي التي نفّذتها، وألمح في الكثير من المواضع إلى أنها انتقام بصبغة طائفية من حاضنة النظام ومعاقله، من دون أن يُقدّم أي دليل لتحديد هوية من قام بهذا الخرق الكبير لتلك المعاقل.

كعادة كل عمل انتحاري أو تفجير إرهابي، تسارع العديد من الجهات لتبنيه، تلك الجهات التي ترى بمثل هذه الحوادث فرصة لكسب شهرة دموية أو للإيحاء بأنها صاحبة قوة وسطوة في الميدان، فيما سارعت قوى المعارضة السورية على اختلافها لإدانة هذه الجريمة واعتبرتها جرحاً في خاصرتها لا يختلف عن بقية جروح سورية.

بغض النظر عمن قام بالتنفيذ، يمكن تصنيف هذا العمل بسهولة ضمن جرائم الحرب المتواصلة التي ارتكبها ويرتكبها النظام في سورية منذ خمس سنوات، أو بالأصح منذ خمسة عقود، فصحيح أنه مجرم من يتكتم عن الجريمة عن معرفة مسبقة، ومن يشارك في تنفيذها، ومن لم يمنع الجاني من ارتكابها، إلا أنه هامشي في عالم الجريمة، لأن المجرم الأساس والأكبر والأكثر شراً هو من هيئ البيئة المثالية لارتكاب الجرائم وحرض على تنفيذها وتواطأ مع الشيطان لكي تحصل.

ليس بالأمر تجنّياً أو مبالغة، فما يجري في سورية ليس عشوائياً، فطرائق الموت باتت معروفة، وأهدافها جليّة، والمستفيد من نتائجها واضح، فالمجرم هنا قاتل تسلسلي، يستهدف الثورة وحواضنها في غالبية الأوقات، ويستهدف مناطق سيطرة النظام كلما ظهر تململ في تلك المناطق.

القاتل المتسلسل هو ذاك الذي يرتكب جملة من الجرائم المتتالية، تفصل بينها أيام أو أشهر، وتحدث كل واحدة في ظرف خاص ومكان مختلف، ويكون لها عوارض مشتركة، وهو بلا مشاعر وضمير، ويشعر بالرضى عن موت ضحاياه، ولديه القدرة على الاندماج وتمثيل دور طبيعي في المجتمع، وما أن ينتهي من جريمة حتى يبدأ بالتفكير بالتالية، وهي صفات يمكن تطبيقها على النظام السوري كنظام.

تاريخ النظام غنيّ بالجرائم التي ارتكبها بطريقة متسلسلة، واستخدم فيها أدوات وأشخاصاً وتنظيمات لا تمت له بصلة علنية ليُبعد الشبهة عن نفسه، بدءاً من قتل معارضين سوريين خارج سورية (البيطار، الطنطاوي، النمري، الصباغ وغيرهم)، إلى اغتيال سياسيين لبنانيين معارضين للنظام (جنبلاط الأب، الجميّل، تويني، الحريري وغيرهم)، وحتى لقتل أشخاص من داخل النظام (الجندي، عمران، الزعبي، كنعان، البوطي، غزالة، سليمان، شوكت، مغنية وغيرهم)، وفي كل هذه العينات من الجرائم المتسلسلة التي يصعب حصرها كان النظام يتخفى في تنفيذها وراء ستار، ويتهم معارضيه والإرهابيين وإسرائيل والغرب وصولاً إلى اتهامه للصهيونية والإمبريالية العالمية.

بعد الثورة تغير مستوى الجريمة، وأصبحت جماعية ومُعمّمة، يرتكبها النظام في لحظة محددة لتحقيق هدف واضح بالنسبة له، فعند وصول مراقبي الجامعة العربية لدمشق عام 2011 تم تفجير مبنى المخابرات العامة في كفرسوسة وسقط عشرات القتلى، والجيش الحر صاحب المصلحة بالتفجير نفى علاقته، فيما أكّد كثيرون أن النظام أرادها لتبرير حملته على المنتفضين. ويذكر الجميع تفجير حي الميدان قرب مركز شرطة عام 2012 الذي أودى بحياة الكثير من المدنيين، واتهم النظام المعارضة التي كانت تستحب التظاهر في هذا الحي في تلك الفترة، ثم تفجيرات المتحلق الجنوبي بنفس العام قرب الأمن العسكري حيث كان القتلى كلهم مدنيين، وتبنتها جبهة النصرة التي لم يكن أحد يسمع بإسمها في ذلك الوقت، وفرح النظام ببزوغ نجمها، وكذلك تفجيرات في درعا استهدفت موكب المراقبين الدوليين، واتهم النظام المعارضة المسلحة فيها، على الرغم من أنها كانت تنتظر قدومهم بفارغ الصبر لتريهم ما يفعل النظام بأهاليهم، ثم تفجير مقر الأمن القومي بدمشق حيث تخلّص النظام من خلية الأزمة، ومع أنه موقع محصّن بشكل استثنائي إلا أن ذلك لم يمنع النظام من إلقاء التهمة على الآخرين، وعلى الرغم من تبني جهات مختلفة هذه العمليات إلا أنها في الواقع لم تفد أحداً سوى النظام.

مسألة المستفيد الوحيد من التفجيرات الإرهابية تنطبق أيضاً على التفجيرات التي شهدتها القامشلي في العام الأخير وقيل أن تنظيم الدولة الإسلامية هو من ارتكبها وأرعبت حاضنة المسيحيين والأكراد، وكذلك تفجيرات حمص المتتالية التي أوقعت مئات الضحايا وأرعبت حاضنة النظام في وقت بدأت فيه تظهر أصوات تريد فك الترابط بينها وبين مجرمي النظام، وفي هذا السياق أتت أيضاً تفجيرات الساحل الأخيرة.

صحيح أن تنظيمات وجماعات إرهابية مختلفة تبنّت هذه الأعمال الجرمية، وربما هي التي نفّذتها، أو ساهمت في حصولها، كتنظيم الدولة الإسلامية وجبهة النصرة وحركات إسلامية متشددة أخرى، إلا أن الكشف عن المستفيد يؤشر لمدى صلة هذه الجماعات به، وهذه الجدلية تشير بدورها إلى أن القاتل التسلسلي هو نفسه في كل مرة لكنه يستخدم أدواته أو أذرعه الأخطبوطية الإرهابية المتعددة، وفي الحالة السورية من السهولة بمكان معرفة هويته.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب