الخميس 2013/04/04

آخر تحديث: 04:53 (بيروت)

رؤساء العربية وملوكها

الخميس 2013/04/04
increase حجم الخط decrease
 تستمع إلى الرؤساء والملوك في القمم العربية يلقون خطباً باللغة العربية الفصحى فتشعر بانزعاج شديد يدفعك إلى عدم المتابعة. مع أن بعضهم يقرأ نصوصاً مكتوبة إلا أنه يتلوها كمن يقرأ بلغة غير لغته، إن من حيث اللفظ أو النحو أو البلاغة. 
أصبح نادراً أن نسمع رئيساً أو ملكاً أو أميراً يقرأ أو يتكلم اللغة الفصحى، أو يقوم بذلك بطريقة سليمة. كان جمال عبد الناصر ربما أول رئيس عربي يخطب بالعامية. وكانت الجماهير تصغي إليه، وتضحك معه عندما كان يسخر من عبد الكريم القاسم أو من ميشال عفلق أو من مرشد الأخوان المسلمين، وتصفق له عندما يهاجم إسرائيل. 
الحياة اليومية تجري بالعامية، واجتماعات مجالس الوزراء، واللجان الأمنية والفنية والسياسية، والصفوف الدراسية في المدارس والجامعات تجري بالعامية. ما قام به عبد الناصر هو نقل العامية إلى المجال السياسي العام بعدما كان هذا المجال يقتصر على ما هو رسمي، أي بالفصحى. وهو بفعلته هذه أظهر العلاقة الحميمة بين التعبير الحرّ والانفعالي الجماهيري والعامية والطابع الخشبي للكلام الرسمي في السياسة. القيادة وكاريزما الزعامة كانت تفترض عند عبد الناصر الكلام بلغة الناس، وأحياناً لساعات. 
وأكّد حسني مبارك هذه المعادلة فكان يلقي خطبه بالفصحى، وقد استمعنا إلى خطبه التي سبقت تنحيه، كانت خشبية. كذلك كانت خطابات زين العابدين بن علي. هذا الأخير عاد ولجأ إلى العامية في خطابه الأخير قبل الهرب وقال "فهمتكم الآن...".  كان يبدو صادقاً هذه المرة. لم يكن خشبياً. لكن بعد أن فات الأوان. 
كأن العامية هي لغة المصارحة السياسية والفصحى هي لغة التورية والتغطية. العامية هي لغة الناس العادية والفصحى هي اللغة الرسمية. وما هو رسمي يقترن بما هو خشبي.
لكن ما هذه إلا علاقة احتمالية، مقترنة بوظيفة الخطاب السياسي في بلادنا وليس بطبيعة الفصحى. فها هو عبد الناصر نفسه، نراه وقد انقلب إلى الفصحى عندما ألقى خطاب التنحي بعد نكسة حزيران متكلماً بانفعال لمدة 13 دقيقة. وها هي الثورة في تونس ترفع شعار التغيير باللغة الفصحى: "الشعب يريد تغيير النظام". أما الثورة المصرية التي كانت شعاراتها المكتوبة على اللوحات الثابتة والمتحركة مكتوبة معظمها بالعامية، فقد صدحت أيضا بالفصحى: "الشعب يريد تغيير النظام".
المجالس واللجان تتكلم بالعامية، لكنها عندما تصدر قرارات تكتبها وتقرأها بالفصحى. والطلبة والمعلمون يتحدثون غالباً بالعامية. فقط عندما يكتبون تقارير أو يؤدّون امتحانات فإنهم يستخدمون الفصحى. وهذا بسبب طلب الدقة ومن أجل أن يكون النص متاحاً لغير الأبوين والأحباب. والناس جميعاً الذين يتحدثون العامية في حياتهم اليومية، يستمعون إلى نشرة الأخبار ويقرؤون الصحف والكتب ويستمعون إلى خطب رجال الدين في المساجد، ويملؤون النماذج والطلبات الإدارية... الخ، بالفصحى.   
من الناحية التقنية، العامية هي مستوى من مستويات اللغة، لهجة. وهي تتشارك مع الفصحى في التعبير والفهم (فهم المسموع وفهم المقروء) والكتابة وتتوزعان الأدوار. لكن الفصحى أصبحت ضحية الانطواء الوطني والتفاوت الاجتماعي. كانت الحركات القومية وفشلها التاريخي سبباً للانطواء الوطني. وكان التماهي مع الغرب ولغته سبباً للترفع عن اللغة العربية، أي الفصحى. 
هكذا أصبح الخجل مقتصراً على عدم إتقان اللغة الأجنبية. وأصبحت صعوبة الفصحى هي الحجة المعلنة والمقبولة اجتماعياً للتقصير في أداء اللغة العربية. وأصبح "التكسير" في خطاب الرؤساء والملوك مشهداً معتاداً. وأصبحت العربية كأنها تخصّ المحترفين فقط، كرجال الدّين والمختصين باللغة العربية والصحافيين والكتّاب. لا أدري إن كانت هنالك أمم أو دول أخرى يقع فيها الرؤساء عندما يلقون خطباً بلغتهم في هذا القدر من الأخطاء. ولا أدري إن كان أحد من الخلفاء الأمويين أو العباسيين، بالأمس، لم يلتزم بتوصيات عبد الحميد الكاتب في تأديب أبنائه. 
لا ربيع عربياً إذا لم يحمل معه أزهاراً في اللغة، خصوصاً في خطب القادة.
 
 
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب