الجمعة 2013/04/19

آخر تحديث: 01:44 (بيروت)

العلم نور

الجمعة 2013/04/19
increase حجم الخط decrease
  إذا رسب الطالب لعامين متتاليين في امتحانات "القسم الأدبي" في الشهادة الثانوية في اليمن، يمكنه مواصلة الدراسة والتقدم للامتحان عن طريق الانتساب. أما إذا كان الراسب طالباً في "القسم العلمي" فلا يمكنه مواصلة الدراسة عن طريق الانتساب إلا إذا تحول إلى القسم الأدبي. 
دراسة العلوم صعبة ولا تتم متابعتها عن طريق الانتساب. أما أن يدرس المرء الإنسانيات وما فيها من آداب واجتماعيات فهذا مجال سهل إذن. ومن ينجح في العلوم هو أذكى ممن ينجح في الإنسانيات. أما الحائز على معدلات عالية في العلوم فهو المتفوق. والعكس صحيح. أي أن المتفوق يجب أن يدرس العلوم والعادي من الناس "نرحّله" إلى الإنسانيات. 
الجامعات تصنّف الطلبة المتقدمين إليها على هذا النحو، بحسب دراستهم في المرحلة الثانوية. في مصر تتراوح معدلات القبول في كليات الطب بين 97% و99%، في حين تتراوح معدلات التربية بين 80% و90% حسب الجامعة. وفي سوريا تتراوح معدلات القبول بين 226 و232 لكليات الطب والهندسة وبين 170 و185 علامة لكليات التربية والآداب والفنون والحقوق. وفي الجزائر تتراوح معدلات القبول في شعب الطب والصيدلة والهندسة بين 14 و15، فيما تتراوح بين 10 و11 في شعب الآداب والفلسفة والاقتصاد والتسيير والعلوم الاجتماعية والحقوق. هذه المعلومات تعلنها الإدارات المركزية وتجدها على الأنترنت.
التنميط الثقافي للمعرفة بين رفعة العلوم وبخس الإنسانيات شائع عالمياً. فالعلوم البحتة والتطبيقية تعتبر علوماً صلبة، بينما تعتبر العلوم الإنسانية والاجتماعية علوماً رخوة. الأولى لأنها دقيقة وموضوعية ومثبتة والثانية لأنها لا تتمتع بهذه الصفات. وعندما نقول "العلوم" فحسب، يفهم الجميع أننا نعني العلوم الصلبة، والجميع يضمر ثقته بمناهجها ونتائجها. 
تربوياً يشيع هذا التنميط في الأسر والمدارس ووسائل الإعلام، ويتحرّك الطلبة على هديه في منعرجات الخيارات الدراسية الثانوية والجامعية. وعموم الجامعات ذات الدخول المقنن في العالم تميز في معدلات القبول بين الكليات العلمية والكليات الإنسانية.  
لكن جامعات اليابان على سبيل المثال، التي تميز بين الحقلين العلمي والإنساني في علامات القبول، تتمتع بالاستقلالية الكافية لكي تحدد كل منها عدد الطلاب الذين يمكن أن تستقبلهم والحد الأدنى للقبول فيها كجامعة. وبالتالي ترتفع معدلات القبول في جامعة طوكيو الحكومية وجامعة كيوتو الحكومية أيضا وجامعة واسيدا الخاصة وعشرين جامعة أخرى مقارنة بسائر الجامعات السبعمائة. ثمة جامعات نخبة في اليابان، مثلما هو الحال في أميركا، وفي فرنسا وغيرها.
جامعات النخبة تخرّج علماء ومبتكري تكنولوجيا وتخرج أيضاً مفكرين وعلماء نفس وتربية واجتماع واقتصاد وإدارة وفنانين وصحافيين... الخ. وتخرّج قيادات سياسية. وتعتبر كليات وأقسام العلوم الإنسانية في جامعات النخبة ذات أثر بالغ في مجتمعاتها. أي أن التمييز بين شطري المعرفة لم يلغ فكرة جوهرية رسمها التاريخ مفادها أن التغيّر الاجتماعي يحدث نتيجة التكنولوجيا، الصامتة والحيادية، ويحدث أيضاً نتيجة الفكر، الصاخب وغير الحيادي. كما أن التمييز بين شطري المعرفة لا يلغي واقعة أن البلدان الناجحة لم تنجح بسبب التكنولوجيا، ولا حتى الثروة، بل بسبب كيفية إدارة شؤونها. وكذا حال البلدان الفاشلة. وإدارة شؤون البلاد هي شأن "إنساني".
لقد صنعت البلدان العربية في معظمها سياسة ذات حدين. الحد الأول هو التنميط الثقافي للمعرفة في النظام التعليمي بصورة جعلت التعليم العالي مقسوماً بين اختصاصات نخبة واختصاصات عامة، ومتشابهاً في جامعاته كأنها إدارات متماثلة. فنظمت جامعاتها بقانون واحد، وأخضعت الالتحاق بها والتوظيف فيها لقواعد مركزية. والحد الثاني هو العجز عن الاستثمار الحقيقي في العلوم والتكنولوجيا رغم 13 مؤتمراً عقده "الوزراء المسؤولون عن التعليم العالي والبحث العلمي في الوطن العربي" بين عامي 1981 و2011، تم فيها تبجيل العلم والتكنولوجيا من دون حدود.
النتيجة؟ خسارة تكوين النخب في الإنسانيات، وتصدير النخب العلمية إلى البلدان التي تحسن استخدامها، ثم استيراد نواتج العلم والتكنولوجيا من تلك البلدان على طريقة المفتاح باليد. 
هكذا حكم العسكر، والقوميون، وزعماء العشائر والقبائل، وقريباً الإسلاميون الجدد. جميع هؤلاء لديهم أجوبة جاهزة: لا يحتاجون إلى النخب في الإنسانيات. 
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب