الثلاثاء 2013/03/05

آخر تحديث: 02:54 (بيروت)

شراكة الجاني والضحية

الثلاثاء 2013/03/05
increase حجم الخط decrease
 في لبنان ظاهرة تتفاقم، اسمها التعاقد في التعليم. بل هي واقعة. الظاهرة تيار يمرّ ويختفي يُكتب عنها باعتبارها شيئاً غير مألوف. والواقعة نسق قائم له قانونه غير المكتوب أو المكتوب، جزء من النسيج الاجتماعي. الواقعة الاجتماعية آمرة ناهية كما يقول دوركهايم. لذلك يتوجّس المرء عند الكتابة عنها علناً لأنها قد تثير السخط.
يتقدم صاحب شهادة من مدير مدرسة رسمية، ويطلب منه أن تسند اليه ساعات تعليم. والجواب إيجابي مبدئياً إذا كان الأمر شخصياً أو سياسياً. يطلب المدير مهلة من الوقت لكي يبحث له عن ساعة أو أكثر. وهي مهلة ضرورية من الناحية التقنية، وهي ضرورية لكي يستكشف مدى الثقل السياسي الذي يمثّله صاحب الطلب. ويجري ترتيب الأمور عادة بعد حصول الاتصالات اللازمة بأن يعفي المدير معلّماً غير متعاقد أو أكثر من ساعة تعليمية أو أكثر ويسندها إلى صاحب الطلب. وفور إقرار عقده يتحول صاحب الطلب إلى صاحب مطلب. 
يتعاقد المعلم الابتدائي بمبلغ 11 أو 14 ألف ليرة في الساعة (حسب الشهادة) والأستاذ الثانوي بمبلغ 28 ألف ليرة في الساعة. يقبض الساعات التي يعلّمها. وهذه الساعات محصورة بالدوام الرسمي وينقص عددها مع العطل الرسمية والعطل الطارئة. وهو لا يقبض أتعابه شهرياً، بل تجمع ساعاته وتدفع في نهاية العام أو في مطلع العام التالي أو في نهاية الفصل. والمتعاقد بالساعة لا حماية اجتماعية له، فهو لا يُدرج في الضمان الاجتماعي والصحي، وعليه أن يتدبّر أمره.
ثم أنه لا توجد آلية محدّدة وشروط زمنية ومهنية ليعرف ما الخطوة التالية. فلا ترقية ولا تراكم خبرة ولا تدريب. أمله الوحيد أن يتحول وضعه من متعاقد إلى موظّف معيّن في ملاك التعليم. هذا الأمل نشأ في اليوم الذي تعاقد فيه. لكنه لا يعرف ولا أحد في الدنيا يعرف متى يتم إدخاله إلى جنة الملاك. 
إنه ذلّ التعاقد.
ماذا يفعل ولمن يلجأ في هذه الحالة؟ يتّصل بزملائه، فيعقدون الاجتماعات، ويتّصلون بالسياسيين، كل السياسيين. لأن المتعاقدين ينتمون إلى الجماعات السياسية كافة التي استندوا إليها يوم تعاقدوا لأول مرة. ويجيب السياسيون بأنهم يؤيّدون مطالبهم وسوف يرون ماذا يفعلون. ويمرّ الزمن وينضمّ متعاقدون آخرون إليهم. وكلما ازداد وضعهم مأساوية زاد حلمهم بالتعيين وزاد رهانهم على السياسيين. وربما زاد استمتاع السياسيين برؤيتهم يطلبون الرجاء منهم فيتكرّمون بالوعود. وتكبر كتلة المتعاقدين، وينتقلون من التحرك عبر الاتصالات إلى التحرك ورفع المطالب عبر إصدار البيانات، فالإضرابات فالتظاهرات. ويشارك في هذه التحرّكات ممثلون عن السياسيين، لكي يكونوا هم أنفسهم ممثلي المعلمين أمام زعمائهم وعليهم تنعقد الآمال. وأغلب الظن أن عددا متزايدا من المعلمين يلتحقون في هذه الفترة بالكتل السياسية نفسها. 
إنه تسييس المعلّمين.  
وبعد مرور سنوات، تنعقد الظروف المناسبة وتنظّم مباريات لتعيين المتعاقدين، ويشترط المتعاقدون أن تحصر المباريات فيهم، وان تراعي الأسئلة المطروحة أوضاعهم. ويكون لهم ما يريدون. وأحياناً تنظم مباراة إضافية للراسبين منهم! 
تنتهي هنا قصة هذا الفوج من المتعاقدين، بمصالحة بين الجاني (الحكومة وسياستها) والضحية (المتعاقدون)، لتبدأ قصة فوج آخر منهم. يتكرر ذلك منذ العام 2001. ولكي تتمّ المصالحة بعد إذلال وتسييس يجب ان تكون هناك ضحية أخرى: طلبة المدارس الرسمية.
في المدارس حيث يعلّمون يقال أن المتعاقدين يعلّمون وأن بعض المعلمين الموظفين يجلسون أو يوقّعون على سجل الحضور ويغادرون. وهذا يصنع مناخا من التواطؤ والكسل. والمتعاقدون عندما يتعاقدون لا يحملون أية شهادة إعداد تربوي، وإذا كانوا يعلّمون في التعليم الابتدائي فهم لا يحملون الإجازة بالضرورة، لان القانون الذي اشترط الإجازة عاد السياسيون وعدّلوه تباعا لكي يعيّن أصحاب الشهادات مهما تدنّت. وهذا يصنع مناخا من تدنّي النوعية في التعليم. 
إنه تردّ متماد في نوعية التعليم الرسمي يهب ضحيته الطلبة. في هذا التعليم تتناقص أعداد الطلبة كل سنة منذ العام 2001 رغم زيادة عدد المعلمين في الفترة نفسها. 
أما نحن الذين نقرأ أخبار المتعاقدين في الصحف، فنشعر بأننا نقرأ أخبارا مكررة باللغة نفسها. ونميل عادة إلى القفز عنها. إننا نخضع للواقعة. 
 
 
 
 
 
 
increase حجم الخط decrease

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب